روايات شيقهرواية احتيال و غرام

رواية احتيال و غرام للكاتبة رحمة سيد الفصل التاسع

للحظات فشلت ليال في إيجاد سبيل لنجدتها من بين براثن غضب يونس التي لوحت لها من حدقتـاه السوداوتان..!
ليقترب هو منها خطوة اخرى مكررًا سؤاله بلهجة أشد لم تأتي خالية الوفاض بل غذت بذور القلق التي نبتت بين ثنايا روح ليال :
-ردي عليا مين اللي كنتي بتكلميه ومش عارفه تشوفيه؟!
ثم صرخ بعدها بذهول باذقًا تلك الكلمة التي كانت قد تكتلت في جوفه تأبى الخروج:
-بتخونيني يا ليال؟!

حينها هزت ليال رأسها بسرعة وهي تجيبه بما أسعفها عقلها به لتمسك لجام خياله الذي إنطلق نحو هاوية مُظلمة العودة منها ضارية ودامية…!
-لا طبعا أنت بتقول إيه، أنا مستحيل أعمل كده يا يونس مستحيل
فسألها باستنكار ممسكًا ذراعها بقسوة وهو يكز على أسنانه بعنف:
-امال مين اللي كنتي بتكلميه واللي انا السبب انك ماتعرفيش تشوفيه!؟
إنطلقت تلك الاجابة من بين شفتاها قاصدة إختراق هالة الشك التي غلفت عقله كليًا:.

-ده واحد كان بيحبني من أيام ما كنت عايشة في منطقتنا ولسه لحد دلوقتي بيطاردني واضطريت أقوله كده علشان يسيبني في جالي!
-كدابة
هدر بها يونس منفعلًا بغير تصديق وهو يضغط على ذراعها بقبضته أكثر متعمدًا إيلامها، وعقله يكاد يهلك من فرط الأفكار والتساؤلات التي تحيط به كالحلزون ويدور هو حولها بلا هوادة…!
لتسارع هي القول بملامح متشنجة من ألم ذراعها الذي سيترك اثرًا بالتأكيد:.

-والله مش بكذب يا يونس، لازم تصدقني المرادي
ترك ذراعها فجأة، ليلتقط أنفاسه اللاهثة من فرط إنفعاله، ثم قال بلهجة آمرة مشيرًا للهاتف الذي تقبض عليه بيدها:
-إتصلي بيه دلوقتي قدامي عشان أصدق، لأني معنديش ثقة فيكي ولو واحد في الميه!
ثم اقترب منها ممسكًا بشعرها بعنف ليقترب بوجهه من وجهها مغمغمًا بهسيس خطير أنبأها عن فرش عقله لسيادة شيطان الغضب والجنون:.

-ولو طلعتي كدابة وعقلك وزك بس انك تخونيني وديني وما أعبد يا ليال هخليكي شبه ميته بتتمنى الموت الحقيقي ومش هتطوليه وهتشوفي مني وش مشوفتيهوش قبل كده!
ثارت الفوضى بين جنبات صدرها والرعب يسيطر على مقاليد روحها وهي تراقب عيناه السوداء تُنذرها بجحيم مُظلم ومُهلك وقد إصطبغت عيناه بلونه…
فأجبرت شفتاها على النطق محاولة الدفاع عن نفسها بحروف مبعثرة كحالها:.

-أنا آآ، لأ أنا مش بكذب يا يونس، هخونك ليه وأنا بتمنى إنك تحبني وتعتبرني مراتك بجد!
فنفضها تاركًا إياها بنفس القسوة وهو يشير برأسه نحو الهاتف وكأنه لم يسمعها:
-إتصلي وافتحي الاسبيكر
رفعت الهاتف بحركة اكثر بطئًا من السُلحفاه، يا الهي، تشعر أنها تضع بيدها الجمرات في قالب المنجنيق لتحرق صفحة البداية بينها وبين يونس والتي لم تكتمل حتى بعد…!

ناشدت الله بكل الطرق التي تعرفها في سرها، فقط لا يُفضح أي شيء، لا تحترق من أي جانب يا الله…
وبالفعل إتصلت بذلك اللعين ليأتيها صوته البارد قائلاً بتسلية:
-كنت متأكد إنك هتتصلي بيا تاني، هاا قررتي إيه يا ليلو؟!
فتمتمت ليال بصوت من المفترض أنه غاضب ولكنه خرج باهتًا مرتعبًا كما لم تكن يومًا:
-قررت إيه يا متخلف أنت أخرج من حياتي بقا!

زجرها يونس بعيناه بتحذير لتتعامل بهدوء وبتلقائية تناسب علاقتهم التي لا يدري ما ماهيتها…
ليسمع ذلك الحقير يتابـع بنفس البرود المُستفز:
-تؤ تؤ، كده أنا ازعل، وزعلي وحش، عارفه ليه يا ليلووو؟ لأن آآ…
فقاطعته ليال بسرعة مزمجرة بهلع خوفًا من إكمال جملته:
-قولتلك متتصلش بيا تاني ابدًا وأخرج من حياتي مش عايزه أعرفك تاني ابدًا
فأكمل هو وكأنه لم يسمعها:.

-لأن زعلي يعني يونس باشا يعرف كل حاجة حصلت وبالتالي زعله هو كمان، وإنتي اكيد عرفتي إن زعله وحش اوي يا ليلو!

للحظات لم يتعرف يونس على ذلك الصوت الذي أشتبه به، ولكن الان بعد أن تمعن التركيز به، ضربه الضوء الذي تسلط فجأة على ما كان مجهول لتدوي الصدمة بين ثنايا عقله كقنبلة مُدمرة في أعتى الحروب…!

هذا صوت صديقه جمال، صديقه الذي كان يعتبره من أعز أصدقاؤوه، صديقه الذي خانه في نفس الليلة الملعونة من حياته، خانه بأبشع الطرق، عاون تلك المحتالة ليال لتُدمر علاقته بمعشوقته الوحيدة…

ولكنه لم يصدق، يقسم أنه لم يصدق نفسه، كذب نفسه، أجل، صدقهم هم حينما قالوا أن جمال لم يعود لمصر منذ سافر ابدًا وبالتالي لم يكن له وجود في تلك الليلة، وكذب ذاكرته التي ترسل له شرارة من الماضي تحرقه وهو يتذكر أن جمال كان موجودًا في تلك الليلة وكان دوره رئيسي في تلك اللعبة..!

ولكن الان وقد إتضح للأسف أنه مُحق وأنه لم يكن ثمل كما قالوا بل كان مُخدر ولكنه حينما أتاه جمال ورآه لم يكن مُخدر بالكامل…!
وكم تمنى أن لا يكون محق، آآه من ذلك الألم الرهيب المصحوب بخيبة الأمل، يشعر أن شريان الحياه قد ثُقب داخله بضراوة وسيظل ينزف حتى الموت…
لمَ، فقط لو يعلم لمَ فعل به هذا، لمَ!؟

إنتبه لــ ليال التي كانت صامتة، تعتقد أن صمته تراتيل ما قبل قربان العذاب والذبح..!
ليصدح صوت جمال متأففًا بانزعاج من ذلك الصمت:
-يوووه ما تردي يابت انتي اخلصي؟!
أغلقت ليال الخط باندفاع قبل أن ترفع عيناها بترقب ليونس الذي لم يحرك ساكنًا، كان جامد المحيا، ملامحه لا تنطق بما يعبث بعقله!.
لتهمس ليال مبتلعة ريقها بصوت مبحوح:
-يونس أنا آآ…
فسألها يونس بصوت بارد خاوي من كل المشاعر الإنسانية:.

-إنتي حبتيني فعلاً في يوم من الأيام يا ليال؟

في البداية لم تستوعب ليال سؤاله، ولكنه قد أحسن تقديم لوحة السؤال لها لترسم عليها الأجابة الوحيدة التي تتفن في رسمها والتعبير عنها، فراحت تجيب دون تردد بنبرة مبحوحة:
-اكتر من اي حد واي حاجة في الدنيا دي والله العظيم
ليتفتت قناع جموده الذي كان يغطي ملامحه، ويعلو أزيز مرجل الغضب الذي يغلي داخله وهو يجذبها له محيطًا ذراعاها بقسوة ثم أخذ يهزها وهو يهدر فيها بعنف:.

-كدابة، انتي كدابة، اللي بيحب حد مستحيل يأذيه بالطريقة دي، مستحيل يجبره على حاجة ويعمل حاجة هو عارف إنها هتوجعه جدًا
ثم لمحت طيف حنين مشوب بالألم وهو يستطرد:
-مستحيل يحرمه من حاجة هو بيحبها ويوجع قلبه كده، انتوا ليه عملتوا فيا كده؟ ليه بتحقدوا عليا بالطريقة دي وانا عمري ما رضيت الأذية لحد بقصد او بغير قصد
ثم دفعها بعيدًا عنه يرمقها بنظرات مزدردة وكأنها وباء:.

-انتي واحدة أنانية متعرفش يعني إيه حب أصلًا، واحدة عملت كده لأسباب شخصية وتغاضت النظر عن أي حاجة تاني!
ثم تهادت نبرته للهدوء التام الذي يشبه السم القاتل ببطء شديد، لا تشعر به إلا حين تموت:
-أنا بكرهكم، بكرهكم كلكم، وبكرهك انتي بالذات
لم يستطع كبت تعجبه حينما إستكان إلتواء شفتا ليال المقارب للبكاء ليصبح ابتسامة غريبة لا حياة فيها ولا مرح…

ثم قولها الهادئ الساخر الذي ينافي ما تصرخ به عيناها المتحجرة بالدموع:
-بجد! بعد كل الاستنتاجات العظيمة دي بتكرهني، لا برافووو بجد
ثم صارت تصفق ببطء، إلى أن توقفت وهي تحدق به لينقلب هدوئها لثوران وجنون تام وهي تمسكه من ياقة قميصه مزمجرة فيه بجنون:
-بعد كل حاجة عملتها عشان اوصل لقلبك بتكرهني، بعد ما رميت حياتي ورا ضهري بتكرهني، بعد ما استحملت كل الاهانة دي بتكرهني!

ثم ابتعدت لسنتيمتر لتفتح ازرار قميصها حتى ظهرت رقبتها ومقدمة صدرها، وراحت تضرب على رقبتها بعنف وهي تصرخ فيه متابعة بنفس الجنون:
-مين قالك اني محاولتش أطلعك من حياتي، أنا حاولت أنتحر من اليأس، حاولت اخنق نفسي وأموت وأخلص زي ما انت بتتمنى كل يوم وبتحاول تخنقني، بس فشلت…
ثم أشارت لرسغها بهيستيرية وأردفت:
-حاولت أقطع شرايين ايدي وبرضو فشلت، حتى الموت فشلت فيه!

ثم زمجرت فيه بصوت عالي مبحوح حتى شعرت أن حبالها الصوتية كادت تُمزق:
-مكنتش لاقيه سبب إني أعيش بعد وفاة ماما، ولما عملت اللي عملته فكرت إني بفتح باب اقدر اوصلك من خلاله وخاطرت بكل حاجة، وبعد كل ده بتكرهني.

كان يونس يتابعها مبهوتًا مكانه، وكل كلمة منها تخترق صدره لتسبب دوي عنيف، مصدومًا من ذلك العشق الذي أصبح لعنتها، ذلك العشق دفن روحها في أسفل سافلين برماده الأسود ولم يتبق منها سوى أشباح تحاول إيجاد الخلاص لتلك الروح…!
إنتبه لها حينما بدأت تلطم خديها بعنف غير مبالية بأي ألم جسدي، وتصيح بهيستيرية:
-اكرهني يا يونس، اكرهني، اكرهني
فأمسك هو يداها بقوة يحاول إيقافها وهو يزجرها بحدة خفيفية:.

-اهدي، ليال اهدي، بقول اهدي
ولكنها لم تهدئ ابدًا، كانت في حالة هيستيرية تمامًا، ألم تكفيها قسوة والدها وتصرفاته الغير إنسانيه ولا أبوية ابدًا، ألا يكفيها تهديد لعين بحياة والدها تتذكره كل ليلة قبل أن تنام، ليأتي هو ويكمل عليها…!؟

فلم يفعل هو سوى ما أتى بعقله ليُخرجها من تلك الحالة الهيستيرية، فكبل يداها بيد واحدة خلف ظهرها، وباليد الاخرى كان يثبت وجهها ليجتاح شفتاها في قبلة هوجاء، عنيفة، مضطربة المشاعر ومتأججة العاطفة…!

شفاهما تتلاقى في وصال حار، يحاول فيه تذوق ذلك العشق الذي يقطر من بين شفتاها عله يصبح دواء لكلاهما…!
مطلقًا الحرية لشعور ماكر كان متخفيًا تحت ظلال الكره والاشمئزاز، لينطلق مدغدغًا أعماقه، متناثرًا داخله هنا وهناك، مسيطرًا على جزء ملحوظ منه…

بينما هي كانت مسلوبة الانفاس، تحاول إستدراك ما يحدث، ولكنها لم تعي ابدًا، لم تعي سوى وحالتها الهيستيرية تصبح بوابة لعبور ذلك الطوفان الجارف من العاطفة الحارة حينما لامست شفاه الغليظة نعومة شفتاها…

أبتعد يونس اخيرًا حينما شعر بحاجتهما للهواء، ليسألها بأنفاس لاهثة ونبرة خشنة:
-هديتي وفوقتي ولا لسه عايزه تفوقي؟!
لتضربه على صدره بقوة واهنة وتلك الحمرة تتضرج بوجنتاها من فرط الانفعال والخجل في آنٍ واحد، ثم ركضت نحو المرحاض لتدلف ثم تغلق الباب خلفها لتحبس نفسها به، وتأخذ نفسًا عميقًا…

بينما يونس لم يختلف حاله كثيرًا، لا يدري لمَ فعل ذلك ولا كيف، لا يدري إن كان فعله ليخرجها من تلك الحالة ام استجاب لوسوسة عاطفية غريبة بإذنيه، ولكنه يشعر بشيء غريب، لا يشعر بالندم يمزقه إربًا كالمرة السابقة…!

إجتمع كل مَن بالمنزل على صوت طه الذي إقتحم القصر تتبعه زوبه وهو يصرخ مناديًا بصوت عالي همجي:
-أيسل، إنتي فين تعالي يا شيطانة اظهري، يا حجه فاطمة
اقتربت منه فاطمة بسرعة تردد بدهشة وتعجب:
-في إيه، هو أنت داخل زريبة!
ولكنه لم يرد عليها بل أشار نحو أيسل التي وقفت أمامهم بكل برود راسمة ابتسامة ثلجية مقصودة، وزمجر:.

-هي دي اللي ربتيها احسن تربية وعلمتيها أحسن تعليم، علمتيها تبقى شيطانة وتقطع أكل عيش الناس
فضحكت أيسل دون مرح وهي تتشدق بازدراد:
-أكل عيش مقرف ومقزز زي كل حاجة في حياتكم!
بينما فاطمة تردد مدهوشة لا تستوعب شيء:
-تقطع اكل عيش إيه وشيطانة مين، خليك دوغري وقول انت عايز ٱيه يا راجل أنت!
فاقترب طه من أيسل وتابع بنفس الانفعال المغتاظ:.

-مش انا اللي عايز، أنا جاي النهارده أعرف هي اللي عايزه إيه وحرقت مكان أكل عيشنا ليه
فشهقت فاطمة وهي تستوعب التهمة التي يلقيها على أيسل، فراحت تردد دون لحظة تردد واحدة:
-لأ طبعا أنت بتقول إيه أيسل هتعمل كده ازاي وليه أصلًا؟!
فأشار طه نحو أيسل ساخرًا بمرارة:
-اهي قدامك اهي اسأليها انا جاي عشان اسألها نفس السؤال
فتوجهت عينـا فاطمة تلقائيًا نحو أيسل لتسألها بهدوء متأهبة لأجابة:
-إيه اللي بيقوله ده يا أيسل؟

فنزلت أيسل درجات السلم ببرود وهي تومئ برأسها مؤكدة في تهكم واضح:
-ايوه عملت كده في اكل عيشكم ولو الزمن رجع بيا ورا هعمل كده تاني وتالت ورابع
فصرخت فيها زوبه هذه المرة قاطعة ذلك الصمت من طرفها:
-ليه، عملتي كده ليه ده احنا صدقناكي!
عقدت أيسل ذراعيها معًا، متنفسة بعمق واخيرًا قد سنحت لها فرصتها لتلقي ذلك السؤال عن كاحليها:.

-وانتوا ليه؟ ليه عملتوا فيا كده زمان ولسه بتأذوني؟ ليه رميتوني؟ ليه بتكرهوني وانا حتى لسه ماستوعبش يعني إيه كره؟
وبالطبع بقي سؤالها معلقًا في الهواء، لتهز رأسها بابتسامة باردة:
-لو لقيتي اجابة لسؤالي هتعرفي اجابة سؤالكم
إنتقلت بنظراتها لطه الذي زمجر بجنون والجشع يتزاحم في ساحة عيناه:
-بس انا مش هسكت، هاخد حقي منك وهسجنك
حينها تدخل بدر مغمغمًا بصوت أجش لم يخلو منه البرود:
-متقدرش! أعلى ما في خيلك إركبه.

بينما أيسل تمتمت ببرود وهي تهز كتفاها بلامبالاة:
-لو تقدر تثبت إني عملت كده إثبت واسجني!
تعالت أنفاس طه والغضب يفور بين أعماقه اكثر فأكثر، فسحب زوبه من ذراعها نحو الخارج وهو يقول بتهديد صريح:
-هثبت وهاخد حقي وهوريكي، بس مترجعيش تعيطي وتقولي انتوا امي وابويا ليه عملتوا كده!

كانت مريم تراقب ما يحدث بعينان كالمرصاد، يتماوج الحقد بين عيناها ولكنها تخفيه بشمس البراءة والهدوء الكاذبة…!
وما إن خرجوا وتوجهت أيسل نحو فاطمة حتى تنحنحت هي بحرج مصطنع وخرجت بسرعة علها تلحق بـ زوبه وطه…

وبالفعل وجدتهم يسيران خارج القصر فركضت نحوهم بسرعة تنادي:
-استنوا
فتوقفا بالفعل يرمقانها بنظرة مستفسرة، فلم تهذي هي بمقدمات كثيرة بل قالت مباشرةً والمكر ينضح من حروفها:
-إنتوا عايزين تاخدوا حقكم من أيسل وتردولها اللي عملته فيكم صح؟
فأومأ طه مؤكدًا على مضض، لتسأله هي بنبرة أشد خبثًا ومكرًا، ناعمة كجلد ثعبان سام:
-واللي يجبلكم حقكم ويبرد ناركم منها؟
لتتسع ابتسامة طه شبيه بابتسامتها القذرة وهو يرد بـ:.

-نديله عنينا لو طلب!
-حيث كده اسمعوني كويس اوي
قالتها بنبرة منخفضة وهي تنظر يمينًا ويسارًا لتتأكد من عدم وجود اي شخص ثم بدأت تملي عليهم خطتها التي لا تقل دناءة عن دناءة روحها المُشبعة بالحقد…

في القصر…
جلست فاطمة متقهقرة مذهولة من تفكير أيسل، لتسألها في ذهول:
-ليه يا أيسل؟ ليه تعملي كده؟ من امتى وأنتي بتخلي كرهك وعصبيتك تتحكم فيكي؟!
فنطقت أيسل بثبات وهدوء ولم تخترق ذرة ندم او تردد حروفها ابدًا:.

-علشان كل اللي عملوه فيا زمان، علشان يعرفوا إن المكان ده مجرد خردة ممكن في لحظة تتحرق زي ما اتحرقت وحياتهم هتستمر عادي جدا، لكن انا بنتهم، انا مينفعش حياتهم تستمر عادي من غيري انا اهم من المكان القذر ده اللي فضلوه عليا دايما
لم تجد فاطمة ما تجابهها به وقد أعطوها كافة الاسباب والاسلحة لتحرقهم بها، فيما أيسل تتابع بصوت متهدج من الألم:
-مش ذنبي إنهم خلفوني بالغلط وندموا يا مامي، مش ذنبي!

فاحتضنتها فاطمة مسرعة تؤكد برأسها بحنان فطري:
-مش ذنبك طبعا يا حبيبتي، هما اللي ما يستاهلوش جوهرة زيك في حياتهم عشان كده ربنا عاقبهم بس بنفسهم!

في اليوم التالي…
لم يخمد قلق بدر ابدًا تجاه تفكير مريم الذي هو متأكد أنه يتسرب نحو سبيل لن يعجبه ابدًا وربما يكون سبيل قاتل ومُهلك لأيسل فيُدمره هو الاخر بنفس الحجر..!
لذا قرر ألا يبعد عيناه ابدًا عن أيسل، على الأقل لحين إنتهاء مدة إتفاقهم وحينها سيأخذ مريم رغم إرادتها لأقرب طبيب نفسي او يحبسها حتى في منزلها…!

وقف أمام غرفة أيسل يطرق الباب لتفتح له أيسل فسألها في هدوء وهو يراقب ملابسها المحتشمة الذي أكد عليها ارتدائها:
-خلصتي لبس؟
اومأت أيسل برأسها وقالت مؤكدة على مضض:
-ايوه خلصت، مع اني مش عارفه بطاوعك ليه، قال ايه عشان اختار معاك هدية للسحلية اللي تحت دي
كبت بدر ضحكته بصعوبة، ثم قال بنبرة حاول جعلها جادة:.

-منا قولتلك عايزك تختاري معايا حاجة ليا، وكمان انتي نفسك كنتي عاوزه تشتري حاجة، فهتيجي معايا الشغل اخلص ونطلع نشتري مع بعض وبعدين نروح
كانت أيسل تتابعه بملامح غير راضية، ولكنها لن تتغاضى النظر عن السلم الذي يوضع لها لتتسلق نقطة البداية بينهما، لن تتغاضى النظر عن فرصة ستجعل تلك السحلية تتلوى بها من الغيرة كما حصل بها دومًا…!
-طيب يلا، اكسب فيك ثواب.

قالتها بدلال وترفع مصطنع وهي تمد يدها لتضعها بكفه الممدود لها وبالفعل غادرا سويًا تحت أنظار فاطمة الراضية ومريم الحاقدة اللامعة بالغيرة والغضب…

بعد فترة…
في ورشة صغيرة يقوم بها بدر باعمال النجارة الخاصة به، دلفت أيسل فجأة بعد أن ملت الجلوس وحدها بالخارج، وافكارها تتقازفها يمينًا ويسارًا، ولكنها حسمت امرها…!
أغلقت الباب خلفها وتتقدم منه لتخرجه من اندماجه المعروف في عمله…
كان يبدو عليه الإنهاك وهو يطالعها بنظرات باردة متسائلاً:
-خير يا أيسل هانم؟ حضرتك عايزه إيه من هنا وقفلتي الباب لية؟!
تقدمت منه وهي تقول بثقة أذهلته:.

-عايزه أتكلم معاك في حاجة يا بدر
بدأ يَدعي إنشغاله بما كان يفعل فأمسك بالخشب وهو يجيب دون أن ينظر لها؛
-ما أظنش إن في حاجة تتكلم فيها الهانم مع النجار اللي بيشتغل عندهم واللي اضطرت تتجوزه غصب عنها عشان إتفاق!
وجدها فجأة تتقدم منه اكثر حتى أصبحت امامه مباشرة لتمسك كف يده فجأة وهي تهمس بنعومة فطرية وجرأة لطالما تحلت بها:
-بدر أنا معجبة بيك أنا حاسه إني آآ…

ولكن قبل أن تكمل قاطعها حينما جذب كف يده بعنف من بين يداها الصغيرتان، للحظة شعر أن كهرباء أصابت اتزانه بمجرد لمسها، شعر أنه إن أحس ملمس الجنة بكل جوارحه سيهتاج كل ساكن داخله كان يكتمه بشق الأنفس…!

وقبل أن تنطق كان هو يضحك بلا مرح مستطردًا بسخرية قاسية:
-معجبة! معجبة إيه بس ده انا لو اتجوزت بدري كان زماني مخلف قدك، انتي طفلة بالنسبالي انا عمري ضعف عمرك
ثم استدار يعطيها ضهره متظاهرًا بلملمة اشياؤوه وهو يتابع بنبرة مشدودة متذكرًا غرورها الدائم الذي يمقته فيها، عله ينهي أي تبعثر سببته هي داخله:
-وبعدين من امتى الهانم بترخص مشاعرها كده وبتعرضها على النجار اللي شغال عندهم؟!

كانت أيسل صامتة، حتى أنفاسها كانت مكتومة، وقبضتها مُغلقة مشدودة تضغط على كفها حتى كادت عروقها أن تنفجر من فرط إنفعالها الذي تحاول كتمانه…
وما إن أنهى جملته حتى اومأت برأسها دون أن تنطق بحرف ثم استدارت لتغادر، ولكنها توقفت للحظة لتستدير لتواجهه، كانت عيناها على قطرة عرق كانت تنحدر من وجهه لرقبته ببطء…

فاقتربت منه جدًا حتى أصبحت شبه ملتصقة به وهو مسكتين تمامًا يقف بجمود منتظرًا ما سيحدث، لتقرب وجهها منه كثيرًا حتى لم يعد يفصلهما شيء ثم رفعت إصبعها لتسير من أعلى لأسفل ببطء على رقبته فلم تغفل عن تلك الرجفة العنيفة التي هزته ما إن لمست جلد رقبته الأسمر، لتمسح قطرة العرق تلك بإصبعها ببطء وهي تهمس قرب اذنه:
-افتكر كلامك ده كويس اوي عشان الطفلة دي هتجننك يا بدر ومش أيسل اللي تخسر!

ثم أستدارت لتغادر فوقفت امام الباب تفتحه بالمفتاح في نفس اللحظات التي شعر فيها بدر أن كل ذرة به ثارت وبجنون من ذاك القرب، شعر بعاطفة كانت مكتومة تفور لتحرق مسام جلده، ورائحة شعرها الناري الفواحة، آآهٍ من تلك الرائحة التي التقطتها أنفه بمجرد أن اقتربت منه لتزيد من اهتياج كل خلية به فتسممها بشعور غريب ومشاعر متناقضة، لقد جنته وأنتهى الامر…!

وقبل أن تنتهي من فتح الباب وفي تلك اللحظات وجد نفسه يقترب بسرعة الفهد ليجد نفسه خلفها تمامًا يكاد يكون ملتصق بها، فحُبست انفاسها فجأة ما إن شعرت بأنفاسه خلفها مباشرةً، ليرفع إصبعه ليمسك خصلاتها التي كاد يجن ليلمسها، ثم قربها من أنفه دون شعور مستسلمًا لتلك الرغبة اللحوحة في استنشاق عبيرها مرة اخرى، ليغمض عيناه متأوهًا في أعماقه مُنهكًا من تلك المشاعر…

فنطقت هي بحروف ملجلجة:
-ابعد يا بدر!
أفاق من نشوة الشعور بقربها، ليردف بما كان يجب قوله، كاذبًا في كل حرف:
-مش انا اللي تجنني واحدة زيك، مش انا اللي أنبهر ويجنني شعرك الأحمر اللي يشد كل اللي يشوفه او عنيكي اللي واخده نفس لون القهوة!
ثم اقترب منها اكثر ليردد عند أذنها بصوت خشن:.

-انتي بالنسبالي مجرد الهانم الصغيرة اللي فيه بينا إتفاق، افهمي ده هيكون احسن لينا احنا الاتنين يا أيسل هانم! الهانم مينفعش تختلط بالنجار اللي بيجي يشتغل عندهم..!
ثم ابتعد لتفتح هي الباب وتخرج بسرعة ثم اغلقته خلفها لتضع يدها على قلبها الذي ثارت دقاته وبجنون…
مهما كانت قوية، شرسة، جريئة، ما إن تقترب منه لتشعر بهالة رجولته وخشونته تصبح لينة هشة مبعثرة كحليب أبيض لم يخالطه سواد تلك الدنيا…!

ستريه مَن هي تلك الطفلة، ستجعله يتوسل حبها وحينها ستذكره بذلك الاتفاق اللعين الذي يردده على مسامعها دومًا…

كانت ليال عند حظيرة الخيل تتفحص ذلك الخيل الأبيض بشرود، كم يُشبهها، جامح، شرس، ولكنه وفي ومُحب، مُكبل بالأغلال ومُقيدة حريته مثلها…!
إستفاقت من شرودها على صوت هاتفها الذي صدح معلنًا وصول رسالة فأمسكته لتفتح تلك الرسالة فاتسعت عيناها برعب وهي تقرأها:
-انا حذرتك بس الظاهر إنك فكرتيني بهرج معاكي، عموما الرسالة بكل التفاصيل وصلت موبايل يونس دلوقتي، انتي وحظك بقا لحقتيه قبل ما يشوفها او لا!

إتسعت حدقتاها بهلع، معرفة يونس كل ما حدث يعني دمار كل شيء، يعني خروجها من حياته بلا رجعة قبل أن تنال قلبه، يعني مقتل والدها وبسببها ايضًا…!
فتحت الحظيرة للخيل وفكت قيده ثم ركضت باقصى سرعة نحو غرفة يونس، حتى وصلت ففتحت الباب دون مقدمات لتتصنم نظراتها على يونس الذي كان ممسكًا بهاتفه و…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
نبضات قلب الأسد الفتاة والشخابيط