قصة محنط الاموات
بعد ما أكلنا انا وعم جاد، جاله تليفون من شخص ما.. في ما بينه وما بين عم جاد شغل، وقتها قال لي إننا هنروحله وهنرجع تاني في السريع كده عشان يحكيلي حكاية، بس بعد ما روحنا للراجل وبعد ما خلص عم جاد كلام معاه ومشينا، ووقت ما كنا راجعين من عنده وماشيين في الشارع؛ شوفت على رصيف من الارصفة واحد انا عارفه كويس.. “ملاك الشحات” راجل معروف في البلد بأنه بيتسول عشان ياكل، من يوم ما شوفته تقريبًا وهو كده، لكن الغريب ساعتها بقى إن واحنا ماشيين، قام ملاك ده من مكانه وقرب مننا بسرعة وقال لعم جاد بطريقة كلامه المتقطعة اللي مليانة تهتهة..
-عم.. عم.. عم جاد.. عا عا عاوز جنيه، عاوز جنيه اجيب بيه أكل.
طلع عم جاد من جيبه فلوس وادهاله وهو بيطبطب عليه، وانا كمان طلعت من جيبي فلوس واديتهاله وانا بقوله بابتسامة..
-هَيص يا عم ملاك، روح بقى يا سيدي اشتريلك اكلة كويسة ترُم عضمك وتصلب طولك.
لكن ملاك اول ما قولتله كده، قرب مني وبرقلي..
-طولي.. ططط.. طططولي اتحنى وضهري اتكسر.. اتكسر من بعد ما ماتوا.. هم.. هم السبب.. هم اللي قتلوهم عشان يكتموا صوتي، بس بس.. بس انا هتكلم.. هم اللي بيعملوا كل البلاوي في العالم ده.. وكمان هم.. هم اللي الدنيا دي هتكون.. هتكون نهايتها على إيديهم.
قصة محنط الاموات
كان بيتكلم وانا واقف قدامه زي الاطرش وسط مولد، ف بصيتله بغباء وعدم فهم لكلامه..
-انت بتقول ايه يا ملاك، انا مش فاهم منك حاجة، بس عمومًا يا عم ولا تضايق نفسك، روح هاتلك لقمة و..
لكنه قاطعني بسرعة وقال لي بزعيق..
-انت انت غبي.. غبي وملهي، مش فاهم، دول دول.. غسلوا مُخكوا، وانت زي كل الناس، ضحكوا عليك وغسلوا مخك، ربطوك.. ربطوك في الساقية وخلوك تلف زي التور.
قال لي كده وفضل يلف وهو باصص على الأرض وكأنه بيلف حوالين حاجة انا مش شايفها، وقتها بصراحة كده انا اتضايقت اوي، اتضايقت ونسيت للحظة إنه شخص مش عاقل او مش مدرك يعني للي بيقوله ولا للي بيعمله، فغصب عني قربت منه وزعقتله..
-جرالك ايه ملاك.. هو عشان سكتنالك هتأبح وتقول تور.. ما تحترم نفسك يا عم انت.
وقف في مكانه وبص لي تاني وهو بيضحك بسخرية..
-لا لا مش تور.. انت اعمى، اعمى واطرش عشان مش مصدقني، إنما ده.. الراجل الطيب ده مصدقني، انا حكيتله كل حاجة وهو قال لي مصدقك يا دكتور ملاك.. مصدقك يا دكتور ملاك.
وفضل معلق على جُملة مصدقك يا دكتور ملاك دي، لحد ما عم جاد قرب منه وطبطب عليه..
-ايوة يا ملاك انا مصدقك، وكمان هحكيله حكايتك زي ما حكتهالي من سنين، وهخليه يحكيها للناس، بس انت روح.. روح دلوقتي
واشتريلك لقمة تتقوت بيها.
قصة محنط الاموات
سمع ملاك كلام عم جاد، وخد بعضه وطلع جري على مطعم قريب من المكان اللي كنا واقفين فيه، ومع دخول ملاك للمطعم، مشيت انا وعم جاد في طريقنا لبيته.
-مش فاهم يا عم جاد.. حكاية ايه اللي حكهالك وانت مصدقها وهتحكيهالي، هو ملاك ده عنده حكاية اساسًا!.. ده مجنون يا عم جاد وكل كلامه تخاريف.
بص لي عم جاد بجدية لما قولتله كده وقال لي واحنا ماشيين..
-لا مش مجنون.. هو كان أعقل العاقلين، وفي لحظة بقى مجنون، ولما نوصل البيت واحكيلك حكايته بالتفصيل، هتعرف هو ايه اللي عمل فيه كده، وكمان هتعرف انه معاك حق.. هو فعلًا شاف وعرف حاجات كتير اوي.. حاجات انا وانت ماشوفنهاش، بس ممكن اوي نعرفها كويس لو جمعنا حكايته مع اللي بيحصل حوالينا.
-مين ده اللي عرف وشاف!.. ده ملاك المجنون يا عم جاد، شاف ايه ده ولا عرف ايه احنا مش عارفينه؟
بص لي عم جاد بقرف..
-مجنون!.. طب والله اللي انت بتقول عليه مجنون ده كان عنده حق في كل اللي قاله.. امشي يا محمد امشي، البيت قرب خلاص اهو…
قصة محنط الاموات
وفعلًا وصلنا البيت وقعد عم جاد في الاستراحة بتاعته وانا قعدت قصاده..
-عنده حق ازاي يعني!.. انا لا تور، ولا اعمى ولا..
-ولا ايه.. لا اعمى واطرش كمان، ولما احكيلك الحكاية زي ما حكهالي.. هتفتح وهتسمع، امسك قلمك وورقك ويلا، اكتب ورايا الحكاية.
قصة محنط الاموات
مسكت القلم وجهزت الورق وبصيتله..
-ماشي يا عم جاد، احكي وانا هكتب وراك.
وابتدى عم جاد يحكي وهو بيبص في السقف..
من سنين كان ملاك بيقعد لوحده في الشارع، ماهو من بعد الحادثة اللي حصلت لعيلته وهو بقى مُنعزل عن الناس، بقى عايش في الدنيا بجسمه وبس، إنما عقله ووعيه في حتة تانية.. عقله ووعيه راحوا مع اهله اللي خسرهم كلهم في لحظة، في الوقت ده بصراحة صعب عليا شكله، ماهو كان دكتور تحاليل محترم، ومرة واحدة اختفى لأيام.. ولما رجع تاني.. بقى بيهذي بكلام غريب، بس لما وصل الهذيان لأنه يخبط على بيوت الناس ويقولهم كلام كبير اوي، وكمان راح المركز عشان يبلغ الظابط بيه، الناس بقوا بيطردوه، تمام زي الظابط اللي خلى العساكر يشيلوه ويرموه برة المركز.. ومن بعد اللي حصل في المركز ده بأسبوع تقريبًا، اهله كلهم ماتوا في حادثة هحكيهالك زي ما حكى لي عنها.. وقبل ما تقولي حكالي امتى وازاي، فانا يا سيدي هقولك.. ملاك لما بقى زي الدراويش وعايش في الشوارع من بعد موت أهله، صعب عليا وخدت اكل وروحت اديتهوله، وبعد ما اديتهوله قعدت جنبه لحد ما أكله كله زي المفاجيع، وبعد ما خلص اكل، بص لي وابتسم وابتدت عينيه تدمع وهو بيقولي..
قصة محنط الاموات
-موتوا اهلي يا عم جاد.. موتوا اهلي وموتوني معاهم، انا انا.. انا مش مجنون ولا بخرف، بس هم كبار اوي.. كبار للدرجة اللي تخلي الكلام عنهم هو الجنان بعينه.
ولما سألته عنهم، ابتدى يحكيلي الحكاية كلها، من طأطأ، لسلامو عليكوا… وانا بقى هحكيهالك على لسانه زي ما حكهالي بالظبط..
***********قصة محنط الاموات
انت عارف يا عم جاد إن انا كنت شغال في معمل التحاليل اللي في البلد هنا، بس شغلانتي في المعمل كنت بقبض منها ملاليم.. ملاليم يادوبك كانوا بيقضوني انا ومراتي وعيالي وابويا العيان بالعافية، وده على عكس زميلي الدكتور نشأت اللي اختفى فترة.. وظهر بعدها مليونير، ولما الناس كانوا بيسألوه عن مصدر فلوسه، كان بيقولهم إنه راح اشتغل في الخليج وحوشله قرشين ورجع بعد كده بهيئته دي.. وفضلت على الحال الصعب ده، لحد ما في يوم قابلت نشأت على القهوة، ولما لاحظ اني متضايق ومخنوق قرب مني وسألني..
-مالك يا ملاك؟!.. من وقت ما قعدت يا ابني وانت مسهم كده ليه، انت متخانق مع ام العيال ومروقة عليك ولا ايه؟!
ابتسمت بصراحة لما قال لي كده ورديت عليه وانا ببص له بضحكة بهتانة…
-ضحكتني يا نشأت وانا ماليش نفس اضحك، يا عم مين دي اللي تروق عليا بس.. انا مراتي غلبانة، دي الدنيا هي اللي مروقانا احنا الاتنين، الوضع بقى صعب اوي.. الفلوس اللي بتجيلي من شغلي في المعمل مابقتش مكفية اكل ومصاريف العيال، ولا حتى مصاريف ابويا العيان اللي انا شايله لأنه مالوش غيري، ما انت عارف إن احنا غلابة وان انا وحيد.. بس دلوقتي بقى، بقيت غلبان ووحيد وبائس ومفلس.
حاول نشأت يواسيني لما قال لي..
-عارف يا حبيبي عارف، طب واللي يلاقيلك الحل في أزمتك دي؟
-اديله عيني.. بس قول لي على اي طريقة تكسبني ولو قرشين زيادة فوق اللي بكسبهم.
-لا لا يا عم.. لا عينك ولا حاجة، انا بس عاوزك تدعيلي كده لما ابعتك مشوار شغل هيغير حياتك، وفي خلال الفترة اللي هتقضيها في الشغل ده، هتنبسط اوي بسبب الفلوس، اصل فلوس الشغل ده كتير اوي، وحقيقي هتغير كل حياتك.
كلامه خلاني اتشديت، فقربت منه وسألته باهتمام…
-وايه مشوار الشغل ده اللي هيغير حياتي؟!
قرب مني نشأت وقال لي بصوت خافت وكأنه بيوشوشني..
-بُص يا ملاك، انت لولا انك اخويا ولولا اننا متربين سوا، ولولا كمان إن صحاب الشغل دول طالبين ناس او دكاترة يعني يشتغلوا معاهم، انا عمري ما كنت هحكيلك ولا هدلك على سكتهم، بس انا واثق فيك وواثق انك هتشرفني، زي ما انا واثق بالظبط في إن الناس دول هيراضوك.
قصة محنط الاموات
لما قال لي كلامه ده، رديت عليه بلهفة..
-طيب يا سيدي شكرًا، قول لي بقى ايه حكاية الشغل ده واقدر استلمه امتى؟!
-ايه يا عم انت… حيلك حيلك، تستلم ايه بس، انا لسه هحكيلك ويا توافق يا ماتوافقش، بس لو وافقت.. انا هكلمهم عنك وهم اللي هيجوا ياخدوك.. ف ركز معايا بقى كده وقرب اكتر عشان انا هقولك على المفيد.
قربت منه اكتر، فكمل كلامه بنفس صوته الواطي..
-انا ماكنتش في الخليج، انا كنت شغال في مكان ما في دولية أوروبية، والمكان ده يبقى معمل.. بس مش معمل تحاليل ولا اي معمل من المعامل اللي ممكن تكون دخلتها في حياتك يا ملاك.. ده معمل تحنيط.
اول ما قال كلمة معمل تحنيط دي، استغربت بصراحة وسألته..
-معمل تحنيط ازاي يعني؟!
-انا اقولك يا سيدي، المعمل ده هو مكان بتتحنط فيه جثث الميتين اللي اهاليهم عاوزين يحنطوهم بعد موتهم، بالظبط كده زي ما كانوا القدماء المصريين بيحنطوا الاموات اللي كان معاهم سلطة، او اللي كانوا اغنيا منهم مثلًا.. واللي كان بيحصل زمان لسه بيحصل دلوقتي، الاغنيا او المهابيش على مستوى العالم، منهم اللي بيحبوا يحنطوا جثث قرايبهم، ف بيبعتوهم بعد ما بيموتوا للناس اصحاب الشغل دول.. والناس دول بقى بيبقى شغال معاهم ناس غلابة، ناس غلابة بياخدوا فلوس كتير بالنسبة لنا اه.. لكن بالنسبة لهم هم ملاليم، والحقيقة انا اللي عرفني عليهم كان اخو مراتي.. اشتغل معاهم فترة بسبب حماه، وبعد كده خد عيادة في اوروبا واستقر هناك، إنما انا بقى.. فانا رجعت مصر وبقيت كل شوية اسافرلهم وارجع تاني، واهو.. لما حد بقى بيسألني عن فلوسي وعن شغلي، بقول إن انا بشتغل في الخليج.. وبس يا سيدي، ها.. موافق بقى؟!
بعد ما قال لي كده، فضلت باصصله لثواني وانا فاتح بوقي وساكت، فسألني تاني..
-ايه يا ملاك؟.. موافق ولا ايه؟!
قصة محنط الاموات
-موافق على ايه يا نشأت، انا مش فاهم حاجة، يعني انا دلوقتي هروح فين ولا هعمل ايه ولا هشتغل ازاي ولا هقبض كام، ما تقولي تفاصيل يا أخي.
-حاضر يا سيدي، بص.. الناس دول لو انت وافقت على الشغل معاهم، انا هكلمهم وهتوسطلك عندهم، وبعد ما يتحروا عنك ويدوني الموافقة، هديك عنوان هتروح تقابلهم فيه، بس قبلها تبقى معرف اهلك إن جاتلك سفرية شغل برة مصر.. لأنهم في المقابلة دي، هياخدوك على طول ويسفروك للدولة الاوروبية اللي فيها المعمل ده، ومن بعد وصولك بقى واول ما تستلم الشغل على طول وتبدأ تشتغل في الجثث وفي مواد التحنيط، هيتحولك مبلغ كويس اوي على حسابك في البنك، ولو ماعندكش حساب يا سيدي، هم هيعملولك وهيحطولك فيه فلوس وهيدوك كمان الفيزا بتاعت الحساب ده في أول أجازة… وبس، ادي كل التفاصيل.
-يا رااجل.. نورت المحكمة يا عم نشأت، انت بتشتغلني يا عم ولا شايفني عيل بريالة قدامك، مين دول اللي هيسفروني بسهولة كده ومن غير أي ورق لدولة أوروبية، لا وكمان هيشغلوني في تحنيط الميتين، انت ضارب حاجة يا ابني؟!
-بقولك ايه يا ملاك.. انا مابهزرش وبتكلم جد دلوقتي، ده شغل.. الناس دي مابتهزرش، وبالنسبة لموضوع سفرك، فماتقلقش، هم ناس واصلين اوي وهيعرفوا يسفروك كويس اوي من غير أي تدخل من أي حد، هم ليهم كذا طريقة، اما بقى بالنسبة لتحنيط الاموات.. ف اه يا عم ملاك، فيه ناس مجانين بيحنطوا أمواتهم لحد دلوقتي، وغالبًا بيبقوا الناس اللي من طبقة غنية اوي حوالين العالم، الناس دول بيحبوا يحنطوا قرايبهم عشان يفضل ليهم ذكرى وأثر زي ما القدماء المصريين كانوا بيعملوا كده.. وعلى فكرة؛ اسلوب التحنيط في المعمل ده، قريب اوي من اسلوب تحنيط المومياوات بتاعت اجدادك اللي بنلاقيهم في المقابر، ومتهيألي انت عارف التركيبة الكيميائية بتاعت التحنيط كويس.. ولا ايه؟!
هرشت في راسي لما قال لي كده ورديت عليه..
-والله مش اوي يا نشأت، انا فاكر كام مادة كده كنت قريت عنهم من سنين في اوراق بحثية، لكن التركيبة نفسها، ماعنديش علم كامل بيها.
قصة محنط الاموات
رد عليا نشأت بسرعة وبتلقائية..
-مش مهم يا ملاك، مش مهم.. الناس دول هيعرفوك كل حاجة بمجرد ما توصل، انا هتصل بيهم النهاردة وهبقى اكلمك بعد يومين وابلغك بردهم.
وفعلًا.. خلصت كلام مع نشأت وخدت بعضي ومشيت، وبعد مرور تلات أيام، اتصل بيا نشأت وقال لي..
-الو.. ايوة يا ملاك، الموضوع تم، الناس وافقوا على سفرك والمفروض إنك هتقابلهم كمان كام يوم، جهز نفسك بقى عشان هتسافرلهم على العنوان اللي هديهولك ده.
خدت من نشأت العنوان اللي كان مكان ما في محافظة ساحلية، وبالفعل جهزت نفسي وخدت معايا شنطة هدوم صغيرة بعد ما قولت لأهلي إن انا مسافر عشان اشتغل، وفي اقرب وقت هكلمهم وهبعتلهم فلوس.
وبعد ما سافرت ووصلت للمكان اللي هقابلهم فيه، وفي المعاد اللي نشأت قال لي عليه بالظبط، فضلت واقف في مكاني لمدة ربع ساعة تقريبًا، كان مكان مقطوع ومافيهوش أي حد، لحد ما فجأة جت عربية ملاكي أزازها متفيم ووقفت قدامي، نزل منها راجل ضخم كده ومُلثم، ماكنش باين من ملامحه أي حاجة، ف بصيت له باستغراب وسألته..
-انت مين وعاوز مني ايه، انت.. انت حرامي وعاوز تسرقني!
رد عليا الراجل بكل هدوء وقال لي..
-لا يا دكتور ملاك.. انا مش حرامي، انا تبع نشأت وجايلك عشان السفرية.. ركز معايا في كل اللي هقولهولك عشان ماتتفاجأش.. انا دلوقتي هغمي عينيك بطاقية سودة هتغطي عينيك بالجزء اللي فوق من راسك، وماتقلقش.. اول ما هتركب المركب هنشيلهالك.. يلا معانا.
وقبل ما اقوله اي كلمة، كان مقرب مني وملبسني الطاقية اللي قال عليها، وبعد كده ركبني العربية.. العربية اللي مشيت مسافة مش عارف قد ايه، بعد كده وقفت وسمعت صوت الراجل وهو بيقولي..
-دكتور ملاك.. وصلنا المينا، دلوقتي انت هتنزل وهتركب المركب، واول ما هتركب، هشيل الطاقية من على عينيك.
نزلت من العربية وفضلت ماشي معاه، كنت سامع صوت امواج بحر كانت واضحة اوي مع الهدوء اللي حوالينا، وفضلت ماشي معاه وانا مش شايف حاجة طبعًا، لحد ما دخلني مكان ما هادي اوي ودافي من جوة، قعدني على الأرض وشال الطاقية اللي كانت مغمية عيني، خدت ثواني كده عشان اشوف المكان من حواليا.. انا ماكنتش في مركب لا.. انا كنت في كونتينر مليان صناديق خشب صغيرة، وقصادي كانوا واقفين اتنين طول بعرض مُلثمين برضه، منهم كان الراجل اللي ركبت معاه العربية، عرفته من صوته لما قال لي..
قصة محنط الاموات
-انت هتفضل قاعد في الكونتينر ده لحد ما يتفتح عليك، واول ما يتفتح.. يبقى انت كده وصلت، هتقابل اتنين شبهنا هيعملوا معاك زي ما عملنا بالظبط… هيغموا لك عينيك وهياخدوك من المينا اللي هتوصل لها، لحد المكان اللي انت رايحه، وبالنسبة بقى لاكلك وشربك طول الطريق، فالتلات صناديق اللي مفتوحين قدامك دول مليانين أكل وعصير وماية، يكفوك في أيام الرحلة وزيادة كمان.. وبالنسبة يعني للحمام ولا مؤاخذة.. فانت عندك جردل اهو ومناديل، اتصرف فيهم وبيهم لحد ما توصل، وصدقني… الرحلة مش هتاخد كتير… تمام كده؟.. فهمت كل حاجة؟!
هزيتله راسي بالموافقة، فبص للي جنبه وقال له..
-يلا يا مجانص عشان نقفل الكونتينر وانت ترجع تشوف شغلك.
وبعد كده بص لي وكمل كلامه..
-توصل بالسلامة يا دكتور، اتمنى لك رحلة سعيدة، واه صحيح قبل ما امشي… بقية الصناديق الخشب اللي مقفولة دي، مالكش دعوة بيها.. ماتحاولش تفتحتها ولا تقرب منها.. خليك في اللي قصادك وفي مساحتك وبس، والكشاف اللي جنبك على اليمين ده، شغله عشان الضلمة.. هو مشحون كويس، ولو الشحن بتاعه خلص، فانت هتلاقي تلاتة غيره وراك.
بصيت ورايا لقيت تلات كشافات غير الكشاف الكبير اللي جنبي، هزيتله راسي برضه من غير ما اتكلم ولا كلمة، بعد كده خرجوا الاتنين وقفلوا عليا الكونتينر وراهم.. وبمجرد ما خرجوا، طلعت موبايلي لقيته فاصل ومقفول.. فمسكت الكشاف ونورته وشوفت المكان كويس، الكونتينر من حواليا كان عادي.. شكله كونتينر كبير اوي من بتاع البضايع وانا المفروض هفضل جواه لأنه جوة مركب، هتوصلني للبلد اللي انا رايحها.
قعدت مكاني وبصيت حواليا كويس لحد ما لقيت بطانية مفروشة على الأرض، اه.. دي اكيد بطانية جايبنهالي عشان اتغطى بيها والراجل ده نسي يقول لي عليها، فردت جسمي واتغطيت بالبطانية، شوية وحسيت بالكونتينر بيتهز فتوقعت إن المركب بتتحرك.. غمضت عيني لأني كنت تعبان اوي وروحت في النوم، لكن نومي ده مادامش كتير.. انا صحيت بعد شوية وانا جعان اوي، بصيت في الصناديق اللي قصادي وطلعت منهم أكل ومايه وابتديت آكل.. كلت بشراهة وبعد ما خلصت، لفت نظري الصناديق الخشب المقفولة اللي كانت بعيدة عني، وساعتها افتكرت كلام الراجل عن إني ماقربش منهم، بس هو ليه قال لي كده، هيكون فيهم ايه يعني المفروض ماشفهوش!
فضلت اخد وادي مع نفسي لحد ما استقريت على إن انا افضل قاعد في مكاني واسكت، انا مش ناقص مشاكل ولا وجع قلب، انا راجل رايح اشتغل وبس..
عدت فترة وانا لسه قاعد عمال ابص حواليا لحد ما حسيت إن انا عايز اعمل حمام، فقومت من مكاني واتصرفت في الجردل وبعدته عني بعد ما خلصت وقعدت تاني مكاني، وقتها بصيت في الصناديق الخشب وضحكت لما لقيت فيهم علب عصير.. طلعت منهم علبة وشربت منها، شوية بشوية وابتديت انعس لحد ما روحت في النوم.. نمت بعمق وبتعب لحد ما صحيت على صوت خبط!
قصة محنط الاموات
الصوت كان متتابع وماكنش بيسكت، فتحت عيني وبصيت حواليا، الدنيا ضلمة كُحل.. اكيد الكشاف انطفى، حسست بإيدي لحد ما وصلت لواحد من الكشافات التلاتة اللي ورايا، نورته ووجهت نوره ناحية مصدر صوت الخبط.. ايه ده؟.. الخبط جاي من صندوق من الصناديق المقفولة!. الصندوق عمال يتهز بقوة وكأن في حاجة جواه عاوز تطلع!
الخوف ابتدى يسري في عروقي، بعدت عنه وانا برسم الصليب على صدري، ومافيش ثواني، والصندوق استقر في مكانه خالص.. وقتها ابتدى الخوف يختفي شوية بشوية لحد ما حَل محله الحيرة..
(الصناديق دي فيها ايه ياض يا ملاك.. معقول يكونوا بيهربوا حيوانات صاحية؟.. طب دي لو حيوانات، ما كده ممكن يموتوا من الكتمة، لا لا.. الموضوع ده فيه إنَ وانا لازم اكتشفها)
بعد ما قولت لنفسي كده، قومت من مكاني وروحت ناحية الصندوق اللي كان جاي منه الخبط، جمدت قلبي وشجعت نفسي وقربت الكشاف منه، الصندوق مقفول باربع أقفال من الاربع اتجاهات، حاولت بص عليه او اشوف ايه اللي جواه لكني ماعرفتش.. بس بعد محاولة والتانية، قدرت اشوف لما بعدت الغطا بتاعه من ناحية حرف من الحروف.. وماكنتش محتاج وقت ولا تفكير.. انا شوفت بوضوح، الصندوق جواه حاجة لمعت.. ده دهب، بس لا لا ده مش أي دهب، ده تمثال دهب، فتحت بوقي وانا ماسك الصندوق ومذهول.. لكني فجأة رميته لما ابتدى يتهز تاني!
(يا وقعة سودة.. ايه اللي بيتحرك جوة ده.. دي تماثيل دهب، ازاي بتتحرك بالشكل ده، طب اعمل ايه انا دلوقتي.. اتصرف ازاي؟)
الخوف خلاني بعدت عنه ورجعت لمكاني تاني، وبمجرد ما رجعت، الصندوق بقى ساكن ومابيتهزش، بعدها فضلت قاعد في مكاني وماقربتش ناحية الصناديق المتعفرتة دي تاني حتى لما كانت بتتهز على فترات، وبعد ما كلت وشربت ونمت وصحيت كذا مرة، حسيت بالكونتينر بيتهز، وبعد فترة من الهزة دي بابه اتفتح.. فتحوه تلاتة مُلثمين برضه، قربوا مني وغموا عينيا ونزلوني، فضلت ماشي معاهم لحد ما حسيت إنهم ركبوني عربية، والعربية دي فضلت ماشية مسافة كبيرة اوي لحد ما وقفت، ومع وقوفها نزلوني منها وحسيت إن انا بنزل سلم، وبعد ما السلم انتهى، فضلت ماشي في ممرات لحد ما سمعت باب بيتفتح وحسيت إنهم بيدخلوني في المكان اللي ورا الباب اللي اتفتح ده… يتبع
(ده الجزء الأول من قصة مُحنط الأموات.. )
الجزء الثاني
مُحنط الأموات
٢
الخوف خلاني بعدت عنه ورجعت لمكاني تاني، وبمجرد ما رجعت، الصندوق بقى ساكن ومابيتهزش، بعدها فضلت قاعد في مكاني وماقربتش ناحية الصناديق المتعفرتة دي تاني حتى لما كانت بتتهز على فترات، وبعد ما كلت وشربت ونمت وصحيت كذا مرة، حسيت بالكونتينر بيتهز، وبعد فترة من الهزة دي بابه اتفتح.. فتحوه تلاتة مُلثمين برضه، قربوا مني وغموا عينيا ونزلوني، فضلت ماشي معاهم لحد ما حسيت إنهم ركبوني عربية، والعربية دي فضلت ماشية مسافة كبيرة اوي لحد ما وقفت، ومع وقوفها نزلوني منها وحسيت إن انا بنزل سلم، وبعد ما السلم انتهى، فضلت ماشي في ممرات لحد ما سمعت باب بيتفتح وحسيت إنهم بيدخلوني في المكان اللي ورا الباب اللي اتفتح ده.
شالوا الحاجة اللي كانوا مغمضين بيها عيني، وخدت شوية وقت عقبال ما شوفت الدنيا من حواليا، انا في أوضة مترتبة جدًا، فيها سرير ومكتب وتلاجة وترابيزة وشكلها نضيف اوي، وقصادي.. كان في واحد مش مُلثم بقى.. الراجل ده كانت ملامحه بتدل على إنه راجل أوروبي، شعره أصفر وعينيه ملونة، بصيت له وابتسمت وانا بقوله..
-هاللو..
ضحك وقال لي بتريقة وبلكنة عامية مكسرة..
-حمد لله عالسلامة يا دوك.. اتفضل استريح وبعد كده غير هدومك بهدوم الشغل اللي على السرير دي، وبعد شوية انا هاجيلك، ولو عاوز أكل، هتلاقي التلاجة الصغيرة دي فيها أكل وماية وعصير، وبالنسبة لل w.c.. فهتلاقيه ورا الباب ده لأنه ملحق بالاوضة.
قصة محنط الاموات
ضحكتله بصراحة واتكلمنا بكل ود لحد ما سابني وخرج، قفل الباب وراه وانا دخلت الحمام، خدت دش وقضيت كل حاجتي، وبعد كده أكلت وقبل ما البس الهدوم اللي قال لي عليها، نمت.. كنت تعبان فحطيت راسي على مخدة السرير وروحت في النوم.. وبمجرد ما غمضت عيني سمعت صوت خطوات حد بيجري برة الأوضة!
فتحت عيني وقومت من مكاني بالراحة، باب الأوضة كان مقفول، او انا كنت فاكره مقفول لحد ما قربت منه وحطيت إيدي عليه واتفتح.. خرجت برة الأوضة بخطوات بطيئة وانا ببص حواليا بذهول وبرعب.. انا في مكان غريب اوي، الأرض والحيطان مليانين دم لزج ولونه غامق، بس الطرقة او المكان اللي انا كنت ماشي فيه ده.. كان فاضي، اومال ايه صوت الخطوات اللي انا سمعته وانا نايم ده..
-حد هنا.. any boudy here..
كنت متوقع إن حد يرد عليا بأي لغة، لكن اللي رد عليا ماكنش صوت حد بيتكلم، ده كان صوت خطوات حد بيجري من ورا ضهري بسرعة وكأنه هيخبط فيا، لفيت بسرعة جدًا وانا بلصق ضهري في الحيطة، لكني لما لفيت.. برضه مالقتش حد!
خدت نفسي بالراحة وقعدت مكاني وانا جسمي عمال يعرق ويترعش، لحد ما مرة واحدة سمعت صوت من على يميني، كان صوت أشبه بصوت الكلب لما بيجي يزوم عشان يهجم على حد.. بلعت ريقي وبصيت جنبي بالراحة عشان اشوفه، راجل طويل قاعد جنبي ناحية اليمين وعمال يبص لي، ملامحه كانت غريبة وعيونه بيضا تمامًا ومرعبة، وجسمه.. جسمه كان مليان شاش وريحته قذرة اوي.. والابشع من ده كله بقى كان شكل سنانه، سنانه كانت سودة اوي وهو فاتح بوقه وبيقرب بوشه مني بالراحة.. في الوقت ده الخوف اللي جوايا ماخلنيش اتسمر في مكاني ولا خلى تفكيري يقف، انا بسرعة قُمت وقفت وزقيته بكل قوة وطلعت اجري.. وفضلت اجري واجري في الطرقة الطويلة دي وانا مش عارف بجري من مين ولا رايح فين، لحد ما مرة واحدة خبطت في حد قدامي، حد خبطتي فيه خلتني وقعت.. ولأن الأضاءة بتاعت الطُرقة في المكان ده ماكانتش قوية زي بقية الأماكن، فانا لما وقعت على الارض وبصيتله، ماكنتش قادر احدد ملامحه كويس.. بس لا لا.. انا ماحتاجتش اضاءة قوية ولا احتاجت احدد ملامحه كويس عشان اعرفه، ده نفس الشخص اللي شوفته وجريت منه، قرب مني ومسك رقبتي وابتدى يخنقني بكل قوة.. نفسي ابتدى اروح وانا بقاومه وبحاول افلت منه، لحد ما شوية بشوية ابتديت افقد الوعي واغيب عن الدنيا..
قصة محنط الاموات
-دكتور ملاك.. يا دكتور.. يلا يا دكتور اصحى.
فتحت عيني وانا بشهق، كنت لسه نايم على سريري وقصادي كان نفس الراجل اللي جابني لحد هنا.. كان باصص لي وهو مبتسم لحد ما ابتسامته ابتدت تتحول لقلق..
-انت كويس؟!
مسحت وشي بإيدي وانا برد عليه..
-اه تمام.. انا تمام، انا بس شوفت كابوس صعب اوي.
ضحك على كلامي وقال لي..
-اكيد رحلتك كانت صعبة وعشان كده نومك بقى مليان اضطرابات، لكن المهم دلوقتي إنك وصلت.. يلا البس عشان مستر داوود مستنيك.
بصيت له بتعجب وانا بقوم من على السرير..
-مين مستر داوود؟!
-مدير المعمل ومدير كل اللي بيشتغلوا هنا.. انا هستناك برة، غير هدومك واخرجلي عشان هنروحله.
غيرت هدومي وخرجت انا والشخص ده اللي عرفت إن اسمه فرانك وروحنا لمكتب داوود.. بس طول ما احنا ماشيين، انا كنت منبهر بالمكان الحقيقة، المعمل رغم إنه موجود تحت الارض، إلا إنه مكان نضيف وديكوره مبهور جدًا، كنت حاسس إن انا جوة فيلم أجنبي لحد ما وصلنا لمكتب داوود.. كانت اوضة عادية خالص، فيها مكتب خشبي وطرازها تحسه قديم شويتين، بصيت لمستر داوود ده اللي كان قاعد على المكتب واول ما شافني قام وقف ورحب بيا.. وخليني بس اقولك إنه راجل في الستينات تقريبًا، أصلع ولابس بدلة سودة وكان ماسك في إيده اوراق.. أورواق ماسبهاش حتى بعد ما قام رحب بيا وقال لي بلكنة مصرية ممتازة..
-حمد لله على السلامة يا دكترة.. المعمل نَور.
بصيت له باستغراب..
-الله يسلم حضرتك.
لكنه ماهتمش بردي، كان باصص في الملف اللي في ايده وهو واقف قصادي وقال بلا مبالاه..
-شكرًا فرانك.
قصة محنط الاموات
اول ما قال كده، فرانك سابنا وخرج، وبعد خروجه، اتكلم مستر داوود وقال لي وهو لسه بيبص في الملف..
-دكتور ملاك حنا.. بيقولوا إنك بتفهم في الكيميا كويس، وعشان كده هتشتغل في معمل الصناعة وهتساعد في التحنيط اليدوي مش الكيميائي اللي بيتم بالهيدروچين، انت دلوقتي هتروح المعمل وهناك هتلاقي دكتور ديفيد اللي هيكون مسؤول عنك انت وعادل.. وعادل ده زميل ليك من مصر برضه وجديد زي حالاتك، انت هنا هتنبسط معانا اوي، وصدقني.. بعد أول اسبوع، هيتحط في حسابك مبلغ محترم في البنك.. ولو في خلال الاسبوع ده اشتغلت في اكتر من جثة، المبلغ هيزيد كمان، احنا بنقدر اوي الناس اللي بيشتغلوا معانا، وكمان بنحب المطيع اللي بيسمع الكلام.. وإياك تنسى إن احنا جيبناك هنا مش عشان كفاءتك.. انت هنا بالواسطة زي ما بيقولوا… اشتغلت معانا بس عشان نشأت كلمنا عليك، ونشأت يبقى قريب جدًا من جوز بنت دكتور كبير في منظمتنا.
اول ما قال لي كده سألته بتلقائية..
قصة محنط الاموات
-على عيني وراسي يا مستر داوود.. بس حضرتك يعني طول الكلام عمال تقول احنا احنا.. انتوا مين عدم اللامؤاخذة.
-مش شغلك.
-حاضر.. بس انا يعني كنت عاوز اسأل على حاجة قبل ما استلم الشغل، الصناديق اللي كانت في ال..
قاطعني بسرعة وقال نفس الكلام تاني..
-برضه مش شغلك..
ساب الملف اللي في إيده وحطه على المكتب وقال لي بنبرة أمر فيها شوية تهديد..
-ماتسألش عن اللي مايخصكش، انت هنا عشان تشتغل وتاخد فلوس وبس، لا يهمك تعرف احنا مين، ولا يهمك تعرف اي حاجة ماتخصش الشغل اللي انت جاي تعمله.
بعد كده مسك موبايل طلعه من جيبه واتصل بواحد قال له يجيله.
بعد ثواني.. دخل علينا شخص شكله أجنبي، خدني من إيدي ووداني لأوضة اسمها معمل الكيماويات، وهناك قابلت خمس أفراد والدكتور اللي مسؤول عنهم وعني.. كلهم كانوا أجانب وتقريبًا كده كانوا عارفين بعض، إلا انا وشخص مصري اسمه عادل.. الواضح كده إننا كنا احنا الاتنين بس اللي جداد على المكان.. قضينا اليوم كله في تصنيع كمية كويسة من مادة واحدة من المواد اللي بتستخدم في التحنيط، وبعد عدد ساعات شغل محترم، خرجنا اكلنا في مكان ما كده زي استراحة، خلصنا أكل ورجعنا كملنا شغل تاني، وبعد ما خلصنا شغل في المعمل.. جه شخص ما وقال إن انا وعادل المفروض هنروح نساعد في عملية تحنيط بتتم دلوقتي.. وفعلًا خرجنا معاه وروحنا لاوضة التحنيط اللي كان فيها اتنين دكاترة وقصادهم جثة لرجل عجوز.. الجثة كانت بطنها مفتوحة وفاضية، ايوة.. الجثة كانت من غير أعضاء، وده طبعًا لأنها هتتحنط.. ماهو ماينفعش الجثة تتحنط وفيها أعضاء، ده اللي عرفته منهم.. وكمان عرفت وهم شغالين في الجثة وانا وعادل بنساعدهم، إن عملية التحنيط للجثة بتتعمل على الأعضاء اللي بتطلع منها كمان بس بتبقى لوحدها، لكن الغريب بقى من ده كله، إن انا وعادل وقت ما كنا واقفين شغالين وبنساعد الدكاترة اللي بيحنطوا، فجأة اتسمرت في مكاني.. جثة الشخص اللي قصادي ده، شبه الشخص اللي شوفته في الكابوس، هو اه ملامحه كانت متغيرة لأنها كانت مرعبة اكتر في الكابوس، لكن لا.. ده هو..
-هو يا عادل.. انا شوفت الشخص ده في كابوس اول ما جيت هنا.. كان هيموتني.
بصوا لي الدكاترة باستغراب وبعد كده شاورا على بوقهم عشان اسكتت، ف سكتت، وقتها قرب مني عادل وقال لي بصوت واطي..
قصة محنط الاموات
-اما نخلص شغل ابقى احكيلي، بس دلوقتي خلينا نركز في اللي بننيله ده عشان انا رجلي وجعتني من كتر الوقفة.
ف سكتت خالص ورجعنا نكمل شغل، لكن وقت ما كنا احنا الاربعة شغالين، حسيت إن إيد الجثة اليمين بتتحرك، قربت مني بالراحة وبكل هدوء.. لحد ما فجأة مسكت كف إيدي، اتنطرت في مكاني وقولتلهم بصوت عالي..
-انا مش عايز اكمل.. انا.. انا.. انا عاوز ارجع المعمل تاني.
قرب مني عادل ومسكني من إيدي..
-اسكت بقى، انت بتعمل زي العيال الصغيرة كده ليه، احنا خلاص قربنا نخلص اهو.
لكن ساعتها واحد من الدكاترة كان له رأي تاني، طردني برة المعمل وقال إن انا لازم ارجع أوضتي وارتاح لأن اعصابي تعبانة، وعشان كده خرجت وغيرت هدومي وخليت حد خدني لاوضتي.
دخلت الأوضة وقعدت على السرير وانا مش بفكر في أهلي ولا بفكر في الفلوس ولا حتى بفكر في أي حاجة من اللي جيت عشانهم المكان ده، انا كل اللي كان شاغل تفكيري كانوا هم.. الناس دول مين وبينيلوا ايه تاني غير التحنيط، الناس دول في وراهم مصايب وانا مش حملهم، وبعدين انا حاسس إن المكان ده خبيث وملعون ومليان شياطين، انا اول ما دخلت فيه حسيت بيهم.. انا شكلي مش هقدر اكمل معاهم، انا تعبان اوي.. تعبان اوي من كتر الشغل والتفكير..
فضلت اتكلم مع نفسي بصوت عالي لحد ما فردت جسمي على السرير، انا اه مانمتش ولا غمضت عيني، لكني فضلت فارد جسمي على السرير لحد ما سمعت صوت خبطات على الباب، قومت من مكاني وروحت ناحية الباب وفتحته، بصيت في الطرقة مالقتش حد!
اترعبت بصراحة وقولت بصوت عالي..
قصة محنط الاموات
-مين؟!.. في حد خبط على الباب؟!
بس ماحدش رد، الظاهر إن الكابوس بيتحقق ولا ايه؟.. بس لا، انا في الكابوس خرجت من الاوضة، إنما في الحقيقة بقى انا مش هخرج، انا هفضل قاعد في أوضتي واللي يحصل يحصل.
قفلت الباب ولفيت عشان ادخل، لكني فجأة وقفت مكاني وبرقت.. انا اول ما لفيت لقيت الجثة اللي كنا بنحنطها نايمة على السرير بتاعي، رجعت كام خطوة لورا وبسرعة فتحت الباب وطلعت جري على برة.. وفضلت اجري بأقصى سرعة عندي لحد ما لقيته قصادي، مش الشيطان ولا العفريت ولا صاحب الجثة، انا شوفت عادل اللي اول ما شافني بص لي باستغراب..
-مالك يا ملاك.. في ايه، مالك بتجري كده ليه؟!
خدت نفسي بالعافية وانا بشاورله في الإتجاه اللي جيت منه..
-الجثة، في اوضتي.
خدني من إيدي وراح معايا للاوضة، وطبعًا اول ما وصلنا مالقيناش لا جثة ولا اي حاجة، وقتها بص لي عادل وضحك..
-جرى ايه يا عم ملاك ما تجمد كده.. ما عفريت إلا بني أدم يا أخي، اقعد بس واهدى كده وريح اعصابك.
قعدت على السرير وانا بقوله بغضب..
-انا عاوز امشي.. الناس دول شمال، وماقصدش شمال عشان بيحنطوا الجثث وبس، الناس دول بيهربوا أثار وممكن يكونوا بيعملوا بلاوي تانية احنا مانعرفش عنها حاجة، اللي بيحصل ده كله غلط في غلط.. وانا لو ربنا قدرني وخرجت من هنا، هفضحهم وهطلع كل اللي شوفته هنا لكل اللي..
قاطعني بسرعة عادل..
-تبقى عبيط يا ملاك.. كل ده مايهمناش، احنا اللي يهمنا هي الفلوس، الفلوس وبس.. طب تعرف انا اشتغلت هنا ليه، انا اصلا اشتغلت عشان اعرف منهم سر التحنيط ولما اخرج وارجع مصر، ابقى اشتغل بيه برة عنهم.. انا جابني هنا واحد قريبي برضه زي ما انت حكيتلي إن صاحبك هو اللي جابك، وصدقني يا ملاك.. احنا لازم نستحمل ونسكت لحد ما نوصل للي احنا عاوزينه، ناخد منهم قريشنات وكمان نعرف سر التحنيط ونخلع.
بصيت له من فوق لتحت..
-انا عندي مباديء ومش هعمل كده، انا هطلب منهم إن انا أمشي، واول ما اوصل مصر هبلغ عنهم وعن نشأت.. ماهو لو الموضوع كان وقف لحد التحنيط بس، صدقني كنت هطلب إن انا ارجع وكنت هسكت، إنما دول ناس شمال.. بيشتغلوا في كل حاجة شمال وانا..
قطع كلامنا مع بعض صوت خبط على الباب، بصيت لعادل وقولتله يسكت، فسكت وانا قومت فتحت الباب، كان فرانك اللي بص لي وابتسم وبعد كده بص لعادل..
-مش جايلي نوم.. قولت اجي اسهر معاك، وكويس إنك سهران مع دكتور عادل.
دخلته واديته ضهري، وبمجرد ما اديته ضهري لقيت عادل بيبص عليه وبيبرق، وبمجرد ما بصله وقبل ما اسأله في ايه، حسيت بشكة أبرة في رقبتي، بعدها وقعت من طولي وفقدت الوعي.
فتحت عيني بعد فترة لقيت نفسي متكتف وعادل جنبي، كنا في مكتب داوود اللي كان واقف قصادنا وبيبتسم..
-أغبيا.. انتوا الاتنين أغبيا، وانا مابشغلش معايا حد غبي.. معقول ماجاش في بالكوا مثلًا إن المكان مليان كاميرات ومايكات وإن انا ممكن اسمعكوا؟!
بص له عادل وهو مرعوب وقال له..
-بس انا.. انا ماقولتش حاجة غلط!
قصة محنط الاموات
-لا قولت.. لما تبقى طماع وعاوز تتعلم الطريقة عشان تشتغل بيها لوحدك وبرة عننا، تبقى طماع وحمار.
وكمل داوود كلامه وهو بيبص لي..
-وانت غبي.. بتخاف من خيالك، وكمان خاين، واللي بيشتغل معانا هنا لازم يبقى قلبه جامد وأمين.. مش بيخاف من شوية شياطين ولا عفاريت واول ما يشوفهم يبقى عايز يروح بيتهم زي العيال الصغيرة وكمان يبلغ عننا.
اول ما قال لي كده، اتشجعت ورديت عليه بنفخة عرفت بعد كده إن ماكنش ليها أي لازمة لأنه حقيقي اقوى مني بمراحل..
-ايوة لازم ابلغ عنكوا.. انتوا مش بس بتشتغلوا في التحنيط، انتوا كمان بتهربوا أثار.. انا شوفت الصناديق اللي اتنقلت معايا، كان فيها تماثيل دهب أثرية، ولما سألتك عنهم قولتلي مش شغلك.
ضحك داوود ضحكة عالية اوي، بعد كده قرب مني وقال لي..
-مش بقولك غبي وخواف، بتحاول تداري خوفك بشجاعة مصطنعة، يا ابني احنا بنشتغل في كل حاجة، احنا اللي بنتحكم في العالم ده كله، ولا انت فاكر إنك عايش في دنيا سايبة كده.. لا يا حبيبي.. العالم ده بيديروه ناس فاهمة وبيتحكموا في كل حاجة، وكمان ليهم عيون في كل حتة، احنا النظام الكبير اللي بيبص وبيراقب كل الانظمة.. اه يا ملاك يا حبيبي اومال انت فاكر ايه، العالم ده احنا اللي بنديره بالسحر.. بس مش السحر بتاع خالتك ام عبده الدجالة اللي عندكوا في البلد، يعني مش بنحتاج ديك اسود ولا ورك نملة مسلخة عشان نعرف نسحر الناس.. انا بنتحكم في الناس بسحر اكبر، سحر السيطرة.. والسيطرة دي بتيجي بقى بالفلوس للفقرا، او بتلبية الرغبات للأغنيا، زي التحنيط وتهريب التحف والاثار وغيرها حاجات كتير من اللي بتخلينا نفضل مسيطرين على الكل.. بس للأسف، انت والغبي اللي جنبك ده مكانكوا مش معانا، انتوا شخصيات أضعف واقل من إنكوا تفضلوا هنا.
بلع عادل ريقه وقال له..
-يعني.. يعني هتموتونا؟!
بص له داوود وقال له باستهزاء..
-انتوا اقل من إنكوا تموتوا.. انت هترجع للحارة المعفنة اللي انت جيت منها لانك لسه ماتعلمتش اي حاجة فبالتالي مش هتستفيد.
وبص لي وكمل كلامه..
قصة محنط الاموات
-وانت هترجع بلدكوا.. ولو فكرت بس تفتح بوقك او تتكلم، هنخليك تتمنى الموت وماتطولهوش، وكذلك الامر بالنسبة لك يا عادل.. انتوا اول ما هتوصلوا المفروض تحمدوا ربنا إنكوا لسه عايشين، اشتغلوا وعيشوا حياتكوا وانسوا الرحلة دي خالص، ولو بس فكرتوا إنكوا تعملوا عكس كده.. حياتكوا هتتقلب لجحيم.
ومرة واحدة حسيت بحركة ورايا، اتنين مسكوا رقبتي ورقبة عادل وخدرونا عن طريق حقنتين اتحقننا بيهم في رقبتنا، غمضت عيني وغيبت عن الدنيا لحد ما فتحت ولقيت نفسي في الشارع في بلدنا هنا.. ايوة يا عم جاد، ولاد الأبالسة دول رجعوني زي ما جابوني، جايز بنفس الطريقة وجايز بطريقة تانية، في الحقيقة مش عارف.. بس اللي انا اعرفه إني أول ما عرفت إني في بلدنا، روحت جري على بيتنا، واول ما مراتي وابويا شافوني، حاولوا يسألوني عن اللي جرالي، بس انا ماكنتش بتكلم، انا فضلت ساكت ومذهول لمدة ٣ أيام.. لا بتكلم مع حد ولا بعمل اي حاجة، ولما حاولت اخرج ودورت على نشأت مالقيتهوش، نشأت اختفى من البلد كلها هو ومراته وعياله، وجيرانه قالوا إنه رجع شغله في الخليج وخد مراته وعياله معاه عشان هيستقر هناك.. بس تفتكر انا عرفت اعيش بعد كده؟.. انا الكوابيس ماسابتنيش، وفي كل كابوس منهم كنت بشوف عادل اللي ماعرفتش اوصله، والراجل اللي كنا بنحنطه، وفي كل مرة كنت بحس إن الكابوس ده رسالة معناها إني لازم ابلغ، اه.. اناماعنديش مانع إنهم يموتوني، انا هفدي البشرية كلها وهروح ابلغ في المركز وهحكي لكل الناس عن اللي اتعرضتله، بس المصيبة بقى إن انا لما بقيت بحكي للناس وروحت حكيت للحكومة.. ضحكوا عليا، قالوا عني إني اتجننت وكدبوني، وبصراحة معاهم حق.. انا ماعرفتش اصلًا ابلغ عن معلومة واحدة صح، انا ماعرفش غير نشأت اللي سافر برة مصر ومارجعش تاني، وحتى الراجل اللي قابلته في المينا اللي اسمه مجانص ده، الظابط ضحك عليا لما قولت اسمه.. وقتها مابقتش عارف اعمل ايه، انا فضلت ماشي في الشوارع زي المجنون وبقيت بحكي لكل الناس عن اللي بيحصل من ورا ضهرنا كلنا من الجماعة دول.. لحد ما في مرة لقيت الناس بيقولوا لي وانا ماشي في الشارع إن بيتي ولع.. ومراتي وعيالي وابويا اتفحموا جواه، وطبعًا الحريق اتكتب إنه حادثة انفجار انبوبة غاز والموضوع اتقفل على كده.. ايوة يا عم جاد.. داوود كان عنده حق، هم واصلين، وواصلين اوي كمان، وكمان داوود كان معاه حق لما قال لي إن انا لو فكرت ابلغ او اتكلم عنهم، هيخليني اتمنى الموت ومش هلاقيه، واديني اهو.. بقيت عايش بس ميت بالحيا.. لكني برضه مش هسكت وهفضل اتكلم حتى لو كل الناس قالوا عني مجنون…
***************قصة محنط الاموات
-ولحد هنا يا ابني خلص الدكتور ملاك كلامه اللي خليني اقولك إن انا مقتنع بيه جدًا، ملاك مابيكدبش، ملاك قابل ناس اكبر منه ومن اللي يتشددله كمان، وكل ده بسبب طمعه لما وافق يسافر من غير ما يعرف هو مسافر لمين ولا حتى اللي هيروح يعمله ده صح ولا غلط.
لما عم جاد وصل لحد هنا سيبت القلم وقولتله..
-تمام يا عم جاد.. بس انا مش مصدق معظم الحكاية او حاسس إن فيها مُبالغة كبيرة، اصل مين الناس دول طيب؟!
رفع عم جاد كتافه وهو بيقولي..
-الله أعلم يا ابني.. هم اكيد اكبر من إننا نعرفهم، هم بس ببتحكموا فينا وفي حياتنا من بعيد، واحنا مجرد عرايس لعبة او عساكر شطرنج بيحركوهم على مزاجهم.. اقولك… اكتب الحكاية للناس وخليهم هم يقولوا او يتوقعوا مين الناس دول، وخليهم كمان يقولوا هم شايفين حكاية ملاك كلها حقيقية، ولا في جزء منها حقيقي وهو بالغ في الباقي عشان يصعب على الناس ويعطفوا عليه!
ولحد هنا بيخلص عم جاد كلامه وبينهي الحكاية دي، الحكاية اللي بعدها حكالي حكاية تانية هرجع قريب اوي وهحكيهالكوا..
#محمد_شعبان
قصة محنط الاموات