روايات شيقهرواية جحر الشيطان

رواية جحر الشيطان للكاتبة شاهندة الفصل الثالث

اتجه مروان الى سيارته بخطوات واسعة يحمل داخله إبتسامة انتصار لم تظهر على ملامحه، لقد قام بالخطوة الأولى في طريقه للانتقام ممن كانوا السبب في عذابه، هؤلاء الذين كانوا السبب في ابتعاده عن أبيه الحبيب، والذى توفي دون أن يراه، ودون ان يخبره كم أحبه، سنوات يتعذب في ذلك المعتقل الإجباري والذى فرض عليه، لا يعلم السبب في سجنه واعتقاله، يتخبط بين جنباته فقط، ولولا وجود ياسين معه، لا يعلم كيف كان سيكمل أيامه في ذلك المعتقل، نفض أفكاره التى أعادت اليه ذكريات مريرة وهو يفتح السيارة ويركبها ليقودها بسرعة خارجا من ذلك المكان المقيت الذى يشبه منزل الشيطان، يضم بين جنباته الشيطان نفسه وأعوانه الكثر، حقا كم يكرههم ويكره تلك الحية التى ساعدت ذلك الشيطان عدنان على سجنه، ولكن مهلا، سينتقم منهم فردا فردا، سيجعلهم يتمنون الموت، فقط عليه الصبر قليلا، لتحقيق انتقامه.

أفاق من أفكاره على ظهور قطة أمامه فحاول تفاديها بقوة ليعقد حاجبيه وهو يسمع تأوه ضعيف، ليدرك أن هناك من يشاركه السيارة، ليوقف السيارة على جانب الطريق وهو يمد يده الى درج السيارة ليخرج سلاحه بهدوء ثم ترجل من السيارة بسرعة فاتحا الباب الخلفى وموجها سلاحه الى ذلك الدخيل، لتتسع عينيه بصدمة فهناك تحت المقعد الخلفى تقبع امرأة تضم طفل إليها بقوة وتنظر اليه برعب، امرأة يعرفها جيدا، يعشقها ويكرهها في آن واحد، انها المرأة التى لم يحتل قلبه سواها، والذى أراد يوما أن ينزع قلبه من مكانه لأنه يرفض نسيانها، إنها الجميلة، الرقيقة، والمخادعة، زينة.

كانت فتون تجلس على مقعدها في الطائرة المتجهة الى القاهرة يجاورها نبيل الذى أغمض عينيه يحاول أن يأخذ قسطا من النوم، أمسكت فتون هاتفها لتفتح ملف شخصى يحمل صور أختها الصغرى ميسون، تلمست الصور بحنان، لقد افتقدتها حقا وافتقدت مزاحها وضحكاتها التى كانت تغمر كيانها بالسعادة، أغمضت عينيها ألما وهى تتذكر آخر مكالمة هاتفية بينهما، كم كانت سعيدة وهى تنتظر حبيبها الذى سيعرض عليها الزواج، وكم كانت ساذجة لأنها آمنت له، فقتلها، وأضاع روحها البريئة للأبد، لتفتح فتون عينيها وقد ارتسم فيهم التصميم، لقد اقسمت في بيروت أنها ستقتله وها هي تجدد قسمها، ان لم تستطع سجنه مدى الحياة، أو ان تجلب له حكما بالإعدام، ستقتله، نعم ستقتله ولكن بعد ان تجعله يخسر أمواله وكل غال بحياته، لتمرر يدها على صورة أختها الحبيبة قائلة في همس حزين:.

ساعتها مش هيفرق معايا أموت او أعيش ياميسون، انتى كنتى كل حياتى، واللى عايشة بس عشانها، ورغم اننا مكناش اخوات شقايق، بس كنا زى التوأم، من يوم ما اتولدتى واحنا مفارقناش بعض، ولما ماما ماتت، كنت ليكى أم وكنتى لية زي بنتى، رغم فرق السن الصغير اللى بينا، ياريتك ما نزلتى شرم، ياريتك ما شفتيه ياحبيبتى.

انتفضت على ربتة خفيفة على يدها لتنظر الى نبيل الذى فتح عينيه ينظر اليها متعاطفا، مدت يدها الحرة لتمسح دموعها الخائنة، ليقول نبيل في حزن:
كل شئ في الدنيا قدر يافتون، وقدرها كان انها تنزل شرم وتحبه وهو ميحبهاش، قدرها كان تموت على ايديه وقدرنا نتعذب وقلوبنا تبكى من حزننا عليها، بس قدره كمان انه يتعذب على ايدينا احنا، مش هنسيبه لحد ما يخسر كل حاجة في حياته.

أومأت فتون برأسها وقد ارتسم في عينيها التصميم، فأخاها نبيل لا يعلم نواياها تجاه هذا الياسين، نعم ستجعله يخسر كل شئ في حياته ولكن ما لا يعرفه هو أنها ستجعله يخسر حياته نفسها، فقط على ياسين أن ينتظر مصيره القاتم، فهى قادمة اليه، وبقوة.

أفاق مروان من صدمته بسرعة قائلا في غضب:
ممكن أعرف بتعملى ايه في عربيتى؟
ثم أشار الى فارس قائلا:
ومين ده؟
ضمت زينة الطفل اليها أكثر وهى تقول متلعثمة:
أنا، أنا…
قال مروان في حدة:
انتى ايه؟ما تنطقى؟

افاقت زينة من صدمتها وارتباكها لإدراكها أن صاحب السيارة وضيف عدنان هو مروان، ذلك الذى تخلى عنها قديما وتركها تعانى، لم يهتم بمصيرها أبدا لتبيعها زوجة أبيه الى ذلك الشيطان عدنان، وتذوق هي العذاب سنوات طوال، وفوق كل هذا يقف الآن بكل قسوة وجبروت يصرخ بها ويتساءل عنها وعن طفلها فارس، لتنظر الى فارس برعب تدرك الموقف الشائك والذى وجدت نفسها فيه، عليها أن تبتعد الآن عن فارس حتى لا يسمع ما سوف يقال، ستتحدث مع مروان بكل هدوء، ستجبر نفسها على البرود حتى تحتفظ بحياتها وحياة طفلها ثم تبتعد وبكل قوة عن مروان، مروان، أول من دق القلب له، أول وآخر حبيب، هو من علمها الحب ومن جعلها تنفر منه.

تحولت ملامحها الى البرود قائلة:
بعد اذنك نتكلم بعيد عن ابنى.
أحس مروان بغصة في قلبه، وظهر على ملامحه الألم، اذا هذا الطفل هو ابنها، كان لابد وأن يعلم ذلك، فملامح الطفل تشبه كثيرا ملامحها الجميلة، يحمل نفس عيونها الرمادية الخلابة، تساءل في مرارة، هل تزوجت وأنجبت وعاشت حياة سعيدة بينما كان هو يتعذب بين جدران سجنه؟

لم ترى زينة ملامح الألم المرتسمة على وجه مروان وهى تلتفت الى صغيرها لتتبدل ملامحها من البرود الى الحنان قائلة:
حبيبى انا هتكلم مع عمو كلمتين، خليك قاعد مكانك ومتخرجش من العربية، اتفقنا؟
نقل فارس نظراته القلقة ما بين مروان الذى أخفى ملامح الالم سريعا، وبين والدته ليقول بلهجة بدت اكبر من سنوات عمره الخمس:
هتبقى كويسة؟

رغما عنه أحس مروان بالاعجاب بذلك الصبى، والذى يخشى على والدته منه، بالتأكيد شعر بالتوتر وذبذبات الكره التى ملأت المكان، ليرى مشهدا أشعره بالألم في كل كيانه وزينة تميل تقبل الصغير بحنان قائلة:
طول ما انت معايا هبقى كويسة ياحبيبى.

أخفى مروان مشاعره تحت قناع من الجمود وهو يراها تخرج من السيارة وتغلقها لتمر بجواره تكاد تلامسه ليدق قلبه بقوة وخصلات شعرها الحريرية تلامس وجهه تذكره بأيام كان يقضى فيها الكثير من الوقت يمرر اصابعه بين تلك الخصلات، لينفض أفكاره بقوة وهو يتبعها حتى توقفت على بعد مسافة من السيارة والتفتت اليه قائلة في برود:
كنت بتسألنى عن سبب وجودى في عربيتك، مش كدة؟
نظر اليها في جمود فاستطردت قائلة:.

لو كنت اعرف انها عربيتك أكيد مكنتش هركب فيها، انا أهون علية أعيش جوة جحر الشيطان ومكونش قريبة منك ولازم تعرف ان أسوأ يوم عندى هو النهاردة لإنى شفتك فيه من تانى.
لم يظهر على ملامح مروان أى تأثر بكلماتها، فقط اختلاجة بسيطة في فكه، وقبضة يده التى ضمها في قوة قبل أن يقول:.

الشعور متبادل على فكرة، بعد ما افتكرت ان النهاردة من أسعد ايام حياتى، شفتك وانقلب اليوم غم، بس برده عايز أعرف حضرتك بتعملى إيه في عربيتى؟
نظرت فتون اليه تشعر بمرارة شديدة في قلبها، لتقول بصوت ظهرت فيه تلك المرارة رغما عنها:
كنت هربانة، ارتحت؟
عقد مروان حاجبيه قائلا بصرامة:
هربانة؟من مين؟وليه؟
ابتسمت في سخرية مريرة وهى تقول:.

ويهمك في إيه تعرف؟، احنا كل حاجة انتهت بينا من زمان، انت دلوقتى ليك حياتك وانا كمان لية حياتى، فخلى كل واحد فينا في حياته اللى اكيد هيعيشها بعيد عن التانى.
مال مروان عليها ينظر الى عمق عينيها ببرود قائلا:
لو فاكرة ان حياتك تهمنى أو يهمنى أعرف حاجة عنها فتبقى غلطانة، كل الموضوع انى لقيتك في عربيتى وده بيحتم علية انى لازم أعرف السبب قبل ما ارميكى براها.

أغمضت فتون عينيها لثوان وهى تشعر بأنفاسه الساخنة تلفحها على وجهها تثير في قلبها رجفة، تشعر بالشوق إليه خاصة وهو يقترب منها هكذا لتفتح عينيها وهى تبتعد خطوة، تبا لقد آلمها كثيرا، ومازالت تشتاق اليه، مازال يؤلمها بكلماته القاسية ومازالت ترغبه، أى جنون هذا؟، يجب أن تؤلمه مثلما يؤلمها، يجب ان يبتعد عنها للأبد لذا قالت بهدوء:
كنت هربانة من عدنان،
تراجع مروان بدوره وهو يعقد حاجبيه بشدة قائلا:
عدنان؟

قالت زينة ببرود يخفى ألم قلبها:
أيوة عدنان، اللى عشت في بيته المدة اللى فاتت دى كلها، يبيع ويشترى فية زى كل اللى البنات اللى شغالين معاه.
أغمض مروان عينيه وهو يدرك ما كانت تفعله في منزل عدنان، وما أصبحت عليه زينة، المرأة الوحيدة التى أحبها.
فتح عينيه على كلماتها التى أدمت قلبه وهى تستطرد قائلة:.

كنت كل يوم مع واحد، غصب عنى ومش بإرادتى، حاولت كتير اهرب، بس كانوا كل مرة بيمسكونى ويعذبونى بطريقتهم، طريقة متسيبش علامات في جسمى، طبعا، ما انا جسمى عندهم يساوى فلوس، لغاية ما عرفت النهاردة انك ضيف مهم ولقيتهم خايفين منك، قلت مش هيفتشوا عربيتك وانت خارج، ركبت فيها وفعلا ده اللى حصل، مافتشوش العربية، واخيرا وبعد سنين قدرت أخرج من الجحيم اللى كنت عايشة فيه.

غامت عيون مروان بنظرة سوداوية، تحمل عذابا يفوق الاحتمال وهو يتخيل زينة، تخضع لكل هؤلاء الرجال الذين ذكرتهم، يلمسونها، ويقتربون منها بحميمية ليعطيها ظهره يخفى ألما انتشر بملامحه وأضعفها، يود لو قتل كل هؤلاء الرجال ثم قتلها لاستسلامها لهم، ليعود ويلتفت اليها يرمقها بغضب حارق وهو يمسك يدها بقوة قائلا في حدة:
وايه اللى خلاكى تروحى لعدنان أصلا، مين اللى عرفك بيه، وايه اللى خلاكى تبقى بالشكل ده؟

ليتركها ناظرا اليها باشمئزاز وهو يشير إليها قائلا:
واحدة رخيصة بتبيع نفسها للى يدفع.
ابتسمت في سخرية مريرة وترقرقت عينيها بالدموع وهى تقول:
النصيب يا مروان باشا، ما أنا بعت نفسى زمان وبالرخيص برده، مش هتفرق بقى.
عادت ملامح مروان يغمرها البرود وهو يتجاهل تأثير دموعها على قلبه، ليقول بنبرات باردة تخفى المه:
وابنك ده يبقى ابن مين؟
أحست زينة بالخطر لتسرع قائلة بوقاحة:.

وهعرف منين؟قلتلك كل يوم كنت مع واحد، إنت نسيت ولا إيه؟
قبض مروان على يديه بقوة كى لا يصفعها على وقاحتها، يتمنى من كل قلبه نعمة النسيان، تساءل في صدمة، كيف أحب تلك المرأة وكيف لم يرى حقيقتها من قبل؟ تمالك نفسه، ليقول ببرود صقيعى:.

من معرفتى بعدنان أقدر أقولك انه مش هيسيبك وانه اكيد وفى خلال يومين بالكتير هيلاقيكى، وهتاخدى جزاءك واللى تستاهله واحدة قذرة زيك، ومش بعيد يقتلوا ابنك معاكى وده اللى مستحيل ضميرى يسمح بيه، عشان كدة، أنا هسيبك لقدرك، بس هاخد ابنك عشان يكون تحت حمايتى، اعتبرى حمايتى ليه مقابل الأيام اللى قضيتها معاكى زمان، واعذرينى لو المقابل كان متأخر، ما أنا مكنتش اعرف إنك هتاخديها مهنة تكسبى من وراها.

اصاب زينة الهلع، لم تهتم بكلماته الجارحة، فقط كل ما أدركته انه يريد إبعاد طفلها عنها، لقد تحملت كل ألوان العذاب من أجله فقط ليأتى بكل بساطة يريد إبعاده عنها، وهي تدرك أنه قادر على تنفيذ كلماته، فمن هي لكي تقف بوجهه؟سيسحقها بالتأكيد بماله ونفوذه، وسيبعدها في النهاية عن طفلها، ابدا لن تسمح بذلك، حتى لو تذللت وداست على كرامتها وقلبها، لتقول له بتوسل:.

أرجوك، أتوسل اليك، بلاش تبعده عنى، انا ممكن أعمل أى حاجة بس ابنى ما يبعدش عنى، خلينى جنبه ولو هشتغل خدامة عندك، أبوس ايدك خلينى جنبه.
وقرنت قولها بامساك احدى يديه وتقبيلها لينفض يده بعيدا عنها، فهو لايطيق الآن تلك اللمسة ولا يستطيع تحملها، ولكن كلماتها الصادقة المتوسلة ودموعها استطاعوا أن يؤثروا فيه، وجد نفسه متعاطفا مع أمومتها رغما عنه ليقول ببرود:.

خلاص هاخدك معاه بس هتقعدى باحترامك وهتكونى خدامة ليه، ولو غلطتى غلطة واحدة أو حاولتى تهربى بيه، هتشوفى منى اللى عمرك ما شفتيه، ولا حتى من عدنان ذات نفسه، مفهوم؟

أومأت برأسها وهى تمسح دموعها وأنفها بكمها كالأطفال، ليشعر مروان بقلبه يرق لها، يود لو اخذها الآن بين ضلوعه ليحتويها داخل طيات صدره، يمسح دموعها بشفتيه كما كان يفعل بالماضى، ولكن تخليها عنه منذ سنوات وكلماتها الآن والتى ترددت في أذنيه، أخبرته أن عليه أن ينساها فلم يعد بامكانه الثقة بها ولم تعد تخصه وحده بل استباحها رجالا آخرون، عند تلك النقطة استشاط غضبا، الى جانب حيرة تملكته، لا يدرى كيف يريد أن ينساها وهو يحضرها بنفسه الى منزله؟ ليطمئن قلبه بأنه لن يراها كثيرا فهو غالبا ما يقضى وقته بمكتبه، إلى جانب افعالها التى غلفت قلبه الممزق بجدارا ثلجيا ليتقدمها الى السيارة تتبعه بخطوات منكسرة، تعلم أنها تخطوا الى المجهول ولكنه مهما كان سيكون أفضل مما كانت فيه وسيكون عليها فقط الانتظار حتى تحصل على الأمان ثم تبتعد نهائيا عن كل خطر يحيط بها، خاصة ذلك الخطر الذى يحيطها بقرب هذا الحبيب الخائن، مروان فياض.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
نبضات قلب الأسد الفتاة والشخابيط