الفصل الثامن
استقل سيارته عائدًا إلى الإسكندرية، وملامح وجهه حزينة بعدما فقد آخر ذرة أمل في توطيد علاقته بها، تذكر انهيارها، وصراخها بهما، لم يقوَ على مواجهتها، وجد أنه من الأحسن الهروب من عينيها التي كادت أن تقتله بعدما رأى بهما الغضب والخذلان، زفر بحنق وقام بضرب المقود بيديه بقوة وهو ينعت نفسه : غبي، مكنش لازم تنساق معاه في الكلام…
…..
أما خالد فكان في حالة هياج شديدة، يحاول الوصول إلى غرفتها ووالديه وجدته يقفون له بالمرصاد، لم يتزحزحوا ولم يؤثر بهم تهديداته وكلامه اللاذع، أما هي فكانت تنتحب بقوة في غرفتها…
_ بقولكوا اوعوا، هو أنا هاكلها، أنا هاتكلم معاها بس.
دفعته والدته قليلًا وقالت : يابني اطلع فوق أنت مش سامع عياطها وصراخها، مش وقته.
ردد والده مؤكدًا على حديث زوجته : آه كلام أمك صح، ابعد يا خالد، البنت عاوزين نشوفها مالها.
عقد ذراعيه وهو يحاول الحفاظ على صبره ليقول : آه طيب يالا خلوني اعدي وندخل نشوفها.
تدخلت جدته بحديثها الحاد : ما هي عمرها ماتفتح طول ما حضرتك موجود، اتفضل اطلع فوق .
حسنًا، لم يعد يستطيع السيطرة على نفسه أو لجم لسانه حتى، فهتف بصوت جهوري قوي حاد وغاضب : أنتوا مالكوا أصلًا، بتدخلوا في حياتنا ليه، مالكوش دعوة بينا، اطلعوا بقى برة حياتي وحياتها، قوتوها عليا بعد ما كانت تحت طوعي، بتخرجوني عن شعوري بمخططاتكوا دي، عاوزين عمار الزفت يخطبها وفاكرينه مثالي وهو ازفت وألعن مني مليون مرة، ابعدوا بقى.
تقدم والده منه ووقف أمامه وهو يتحدث بغضب : أنت شخص مش محترم، والظاهر إن فعلًا معرفتش اربيك.
تقدمت سميرة من رأفت وجذبته بعيدًا عن ذلك الثائر،ثم وقفت هي أمامه لتهمس بكلام يرشق بصميم قلبه : لو عاوز تدخل، ادخلها، بس متبقاش تزعل ولا من كلامها ولا نظراتها ليك، وعلى فكرة بقى احنا ولا خططنا ولا نيلنا وهي قويت وبعدت عنك، لما حست إنه مفيش رجى منك، وديل..
التوى فمها بتهكم وتحدثت بسخرية: أظن أنت فاهم.
اختصر هو الآخر تلك المسافة بينهم، ثم تحدث بهمس حاد ووجه أحمر من شدة غضبه : وعشان أنتي جدتي، مش هاعقب على كلامك اللي زي السم ده.
أنهى كلامه ثم تقدم من باب غرفتها، ثم أخرج مفتاح من جيب بنطاله وقام بفتح الباب بكل سهولة، تحت دهشتهم وأعينهم الجاحظة من وقاحته وجرائته، استفاقوا على إغلاق الباب بقوة في وجوههم، ففزعت سميرة ثم قالت : طب والله يا رأفت فعلًا أنت معرفتش تربيه، شوفوا الواد عمل إيه!.
…
أما في الداخل..
فكانت تلك المسكينة تقف في منتصف الغرفة والصدمة تعتلي ملامح وجهها، لتشير على المفتاح الذي بيده وتقول من بين دموعها: إيه ده!، أنت معاك مفتاح أوضتي.
توقفت لبرهة لتتذكر شيئًا ما ثم قالت بصوت مرتفع : أنت سرقته مني!، ياحرامي.
جلس على فراشها ثم قام بإلقائه أمامها بإهمال ليتحدث باستنكار: حرامي!، لأ طبعًا، هو وقع بس في عربيتي، فأنا احتفظت به مش أكتر.
اقتربت منه لتجذبه عن فراشها وهي تقول بحدة غير معهودة منها : اطلع برة، مش عاوزة أشوف وشك،أنت سبب كل حاجة زفتة في حياتي.
لم يهتم بيديها التي تجذبه بقوة، ولم يتزحزح من جلسته ثم سألها بشئ من الهدوء: أنا سبب كل حاجة زفتة في حياتك، عشان عرفتك حقيقة عمار، زعلانة منه وعليه صح!.
توقفت للحظة ترمقه بصدمة من تفكيره المتخلف، بعد كل ماحدث، وما يجرى لها من عذاب وقهر بسبب حبها له، يدرك هذا الأبلة هذه النتيجة في آخر الأمر، حقًا اللعنة على غبائك، ولكنها وجدت أنها فرصة جيدة حتى تنتقم منه، فقامت بالاقتراب من وجهه وتحدثت : آه يا خالد، بعد ما بدأت أحبه، جيت أنت وهدمت كل حاجة، إيه مستكتر عليا أحب وأتحب.
صمت لثوانٍ يستشف صدق حديثها الذي كان بمثابة سكينٍ قوٍ يغرس بقوه في قلبه، فحركت هي بؤبؤ عينيها بسرعة، فابتسم بمكر، ثم جذبها لتجلس أمامه وهو يقول : كدابة طبعًا، عشان قلبك ده ليا بس.
دفعت يديه التي كانت ممسكة بها، ثم قالت : كتر الإهمال والأسية بيعلموا الجفا، وأنا قلبي ده بقى كله جفا بسببك، رغم إنه كان بدأ يلين تاني بسبب عمار.
أخرج لسانه ثم أشار عليه ليقول بعدها : أنتي عارفه ده، ممكن يغسلك دلوقتي بسبب كلامك الأهبل ده، بلاش اسيبه عليكي هتزعلي مني.
ابتسمت بتهكم : ماهو طول عمره أنت سايبه عليا وبيسمعني كلام زي السم، إيه الجديد يعني، شوفلنا حاجة جديدة.
جذب يديها ليتحدث بهدوء : فريدة سيبك من الخناق دلوقتي، وتعالي نتكلم بهدوء شوية، احنا كبار وعاقلين صح نقدر نتكلم بهدوء ونوصل لحل.
ظهرت علامات الاستفهام على وجهها لتقول : حل!!، ؟.
هز رأسه ليقول بتوضيح : نتخطب قبل ما أسافر.
انتفضت من جلستها، لتقول بعصبية : ده بعدك، فاهم ياخالد، ده بعدك .
حاول لجم لسانه وتهدئة نفسه ثم تحدث مستعطفًا إياها : أنا آه فعلًا لفيت وكلمت بنات كتير بس ولا واحدة حبتها ولا واحدة فكرت أقولها بحبك، وكلهم كانوا عارفين كدة، مكنتش بضحك على حد، أنا كنت واضح وصريح، وأنتي عارفة كويس إني بح…
قاطعته وهى تشير بيديها ثم قالت بغضب : مش عاوزة أسمعها، لأنها حاليًا متهمنيش، فوفرها لنفسك أحسن.
أغلق عينيه بقوة ثم قال وهو ينهض : طيب يافريدة أنتي حرة
كاد أن يخرج من الغرفة ولكنه توقف في اللحظة الأخيرة وتحدث بنبرة غريبة لاشك أنها أثارت الفوضى بداخلها، والصراع ما بين عقلها وقلبها عندما قال : السفرية المرة دي في الشغل عندنا مأموريات كتير ، الله أعلم مين هايعيش ومين هايموت، كنت عاوز لما أموت تبقى دبلتك في إيدي.
كان يتحدث وهو موليًا لها ظهره، أما هي فكانت تقف خلفه وهى تقبض بشدة على طرف بلوزتها، انسابت الدموع من عينيها بسرعة وغزارة لتقول بين شهقاتها : اطلع برة.
توقف للحظة يستشعر بفريدة أخرى غير التى أحبها ويعرف مدى براءو وصفاء قلبها، التفت بنصف جسده يرمقها بحزن لآخر مرة، ثم غادر الغرفة وصعد إلى شقته دون التفوه بأي حديث، قام بحزم حقيبته وقطع إجازته التي لم يقضِ منها سوي يوم واحد، هبط الدرج بسرعة، فوجد والده يقف على أعتاب شقة جدته : خالد أنت رايح فين يابني.
تحدث بكلمات مقتضبة : رايح الشغل، سلام.
خرجت نبيلة وسميرة على صوتهما، حاولت سميرة أن توقفه ولكنه استقل سيارته وقادها بسرعة البرق، أما هي فكانت تجلس في غرفتها تبكي بقوة ، دلفت جدتها لتتحدث بلهفة : حصل إيه يافريدة خلى خالد يمشي ويرجع شغله تاني!.
رفعت وجهها وتحدثت بصوت مبحوح : محصلش حاجة ، هو بس عرف نهاية الموضوع ده إيه!.
قالت الجدة بحزن : ونهايته إيه يابنتي!.
رقدت على فراشها وهي تغلق عينيها وهمست : الفراق….
بعد مرور شهر..
جلست نهال على فراش صديقتها تتأمل دبلتها بحب وسعادة، وذهنها عالق بأدهم بعدما استدعته قيادته بعجاله، وقطع إجازته وسط غضبها وحزنها، قطع شرودها دخول فريدة وهى تحمل أكواب القهوة…
_ القهوة يا نهال.
جذبتها نهال لتجلس أمامها متحدثة : ها وبعدين في حالتك دي، ولا بنطلع ولا بنخرج، وقاعدين زي ما إحنا كدة، أنا عروسة وعاوزة أجهز بقى .
ابتسمت فريدة بحب على عفوية صديقتها ثم قالت : متهيألي لسه سنة على الجواز.
شهقت نهال بتمثيل لتقول بعدها : بيعدوا هوا وحياتك اسأليني أنا!.
هزت فريدة رأسها لتقول : حاضر، اديني شوية وقت أعرف أخرج وأفك وبعدها نشوف عاوزة إيه!.
ابتسمت نهال بمكر لتقول : مش عاوزة تخرجي قبل ما خالد يرجع صح، خايفة وقلقانة عليه.
أشارت على نفسها وقالت باستنكار مزيف : مين أنا، لأ طبعًا وأنا مالي بيه أصلًا.
قالت نهال : يا شيخة ده على أساس إنك مبتتمنيش إن أكلم أدهم دلوقتي عشان تعرفي تطمني على خالد.
نهضت من أمامها بارتباك ثم ذهبت صوب سراحتها وقامت بتمشيط شعرها لتقول : بطلي جنان، قولتلك الموضوع ده مات وانتهى.
ابتسمت نهال بتهكم على صديقتها فبراءتها وعيناها تفضحاها بقوة، جذبت هاتفها وقامت بإجراء اتصال بأدهم، تحت أنظار واهتمام فريدة.
_ دومي وحشتني، والله.
كان صوته جاد وهادئ : وأنتي كمان، كنت لسه هاكلمك.
قطبت جبينها لتقول : تكلمني!، في إيه، مالك؟!..
_ مفيش، كنت عاوز أقولك بس إني بحبك أوي.
اتسعت ابتسامتها لتقول بهمس : أنا مع فريدة.
أدركت فريدة الوضع، فقامت من جلستها وذهبت صوب الباب لتعطيها قدر من المساحة لتتحدث مع حبيبها، لتفاجئها بقولها الذي جعلها تتسمر مكانها : فريدة، خالد عاوز يكلمك.
التفتت إليها لتقول وملامح الصدمة بادية على وجهها : نعم! .
أعطتها نهال الهاتف وقالت بهمس : معرفش أدهم قال إنه عاوز يكلمك، هاروح أبوس في جدتك شوية.
خرجت من الغرفة تحت نظرات فريدة المصدومة، وضعت الهاتف على أذنها ليصل إلى مسامعها : فريدة.
كان صوته هادئ بعض الشئ يتخلله حزن ومشاعر أخرى لم تفهمها أو لم تعهدها منه، حاولت تنظيف حلقها فقالت : ن.. نعم.
فاجأها بهمسه الذي اخترق أذنها بقوة : وحشتيني.
استندت على الباب بقوة قبل أن تهوى على الأرض، لتلجم الصدمة لسانها ولم تجعلها تتفوه بأي حديث، فاستمر في حديثه : هو أنتي لسه زعلانة مني؟.
لا هذا ليس خالد بالتأكيد، نعم لقد قاموا بتبديله في المعسكر، هذا ليس الفظ الذي أحبته، لتقول ببلاهة : أنت خالد!..
تخيلت ابتسامته الهادئة كما لو كان أمامها ليقول : أنا والله .
استمرت في بلاهتها : أومال مالك.
استمعت إلى صوت يستعجله : يالا ياسيادة الرائد، العربيات جهزت…
تحدثت هى في لهفة وقالت : خالد أنت طالع مهمة صح.
_ اممم، المهم إني عاوز أقولك إنك وحشتيني وبتوحشيني وهتوحشيني أوي، فريدة.
قالت بلهفة : نعم.
_ أنا بحبك أوي، رغم كل حاجة غلط عملتها زعلتك وجرحتك بس أنا بحبك أوي، سلام.
أغلق الاتصال قبل أن تتحدث هي، فخرجت شهقة من صدرها وهى تضع الهاتف بجانب قلبها، وهوت على الأرض وهي تجثو على ركبتيها متمتمة : ربنا هيرجعك سالم إن شاء الله..
اختلط حديثها بالدموع خوفًا من فقدانه…ففقدانه يعني حطامها حقًا.
وصل للمكان المستهدف وعلى وجهه ابتسامة هادئة يتذكر وجع قلبها الظاهر على صوتها وهي تتحدث معه يؤلمه ، وحبها الواضح يسعد قلبه رغم ما حدث بينهما وتوتر علاقتهما سعادة تملأ قلبه ، قلع الواقي الخاص به تحت دهشة أدهم فردد بصدمة : خالد أنت بتقلع الواقي ليه ؟!
هتف بضيق : حاسس نفسي تقيل بيه متقلني كأني شايل كل لحظة عملت فيها ذنب قلعته وخليني أخلص المأمورية دي من غيره مش طايق ألبسه مش قادر
ردد أدهم بقلق : خالد فريدة مش هتستحمل أي حاجه تضرك البس الواقى ربنا يهديك
سهم أصاب قلبه عند سماع اسمها فقال بصوت يغلبه البكاء : مش هلبسه وسبني في حالي أرجوك
قال مرة أخري : استعدوا
هجووووووووووووم
دقائق فقط وكانت معركة تبادل الطلقات النارية وبركة من الدماء والضحايا وأخر الضحايا كان هو رصاصة رحمة بالنسبة له اخترقت صدره سقط وهو يبكي من وجع قلبه وصراخ قوي من أدهم وهو يقترب : خااااااااااالد
خالد لأ ، خالد فوق قولتلك متقلعش الواقي ليه كده حرام عليك حرام
ردد بصوت متقطع : قول لفريدة إني بحبها والله بحبها يارب دي تكون رصاصة الرحمة والمغفرة ليا وربنا يسامحني على اللي عملته في قلبها
نطق آخر كلماته وأغمض عينيه باستسلام متمنياً صعود روحه إلى ربه بسلام غير مبالياً بصراخ أدهم : خالد
خالد فتح عينيك متستلمش كدة إحنا انتصرنا عليهم والله انتصرنا وفريدة هتسامحك والله هتسامحك فوق هنروح المستشفى أهو وهنلحقك بس متستلمش كدة
قوم ، قوم يا صاحب عمرى
بكاء مزق قلب الجميع من أدهم على صديقه