الفصل الخامس
جلست أمام البحر وخصلات شعرها المتمردة تتطاير بقوة بفعل الهواء الذي لفح وجهها، فجعلها تشعر برجفة قوية رغم حرارة الجو المرتفعة، تأملت المياه وشردت بذهنها إلى ما حدث منذ يومين…
( فلاش باك)
هتفت بتعب وعيون زائغة : خلاص يا تيتة بطلي عياط صدقيني أنا كويسة.
ربتت نبيلة على يد والدتها قائلة : خلاص ياماما، الحمد لله عدت على خير.
أشارت سميرة إلى القابعة بتعب في فراشها ووجها شاحب اللون : مش شايفة وشها عامل إزاي وتعبانة.
تحدث رأفت بنبرة رخيمة : زمان خالد جاي دلوقتي وجايب دوا.
وعند ذكر اسمه انقبض قلبها، وتجمدت أنفاسها، تريد أن تبتعد عنه وعن أي شئ يخصه حتى تشفى جراحها التي تنزف كلما ذكر اسمه أو لمحت طيفه، رأته يتقدم إلى داخل الغرفة بهيبته التي مازالت تؤثر على قلبها وتجعله راضخ له في أي وقت، وضع الدواء على فراشها بإهمال قائلًا : الدوا أهو خدي بقى عشان متتعبيش، وياريت متعكيش في الأكل تاني، مش ناقصين خضة.
رمقته بغضب وحزن في آن واحد، فتجاهل نظراتها وأخرج هاتفهه يتابع شئ ما به، شعرت بنيران تتصاعد بداخلها وتلتهم قلبها وصدرها معًا، فخرج صوتها مهزوز :. تيتة كنت عاوزة أقولك حاجة، وياريت متزعليش.
قالت سميرة بسرعة : قولي يا حبيبتي.
أغمضت عينيها قليلًا تحاول إيجاد كلمات مناسبة لما ستقوله، فهي تعلم أن ما ستقدم على فعله سيسبب الحزن لجدتها، فتحت عينيها بعد دقائق وهي تقول : أنا هاروح لأهل بابا أقعد معاهم شوية وبالمرة أغير جو.
لم يكن صوت جدتها المعترض بل هو، خرج اعتراضه بقوة وعيناه تنطلق منها شرارت غضب قائلًا : لأ طبعا مفيش روحة في مكان، أنتي اتجنتتي ولا إيه.
كادت أن تتحدث لولا صوت جدتها وهي تقول مستفسرة : اتجننت ليه يا خالد، هما مش حقهم بردو تروح وتطمن عليهم ويطمنوا عليها، كفاية إنها مقضتش الإجازة معاهم.
هز رأسه برفض قاطع قائلًا بغضب : لأ أنا لايمكن أسمح بحاجة زي دي، كلهم هناك ولاد، ومينفعش تقعد في وسطهم، وكمان أنتي ناسية عمار عاوز يتجوزها نقوم احنا نخليها تروح.
هذه المرة كان رأفت المتحدث : أنت مالكش حكم عليها يا خالد، أنت ولا جوزها ولا خطيبها ولا حتى أخوها، أنت حيالله ابن خالتها، هى حرة في قرارها.
ارتفع صوته قليلًا قائلًا بحدة وعروق وجهه تنتفض بغضب: يعني إيه ماليش حكم عليها دي، من صغرها وأنا ليا حكم عليها، أنا قولت مفيش روحه وبعدين ركزي في دراستك وبطلي جنان كليتك صعبة.
تحدثت أخيرًا ولكن خرج صوتها به نبرة تحدٍ قوية : لا هاروح، أنت فعلًا يا خالد مالكش حكم عليا في حاجة، ودول أهلي زي ما أنتوا أهلي بردو، وهما وحشوني عاوزة أقضي معاهم كام يوم قبل الامتحانات…
وقبل أن يتحدث ويتحداها كانت هى منهية الحديث بفظاظة لم يعتادوا أن تخرج منها : معلش بقى عاوزة أريح شوية قبل ما أسافر، عمار جاي الصبح ياخدني.
تفاجئوا جميعًا بأنها تحدثت مع عمار ولكن في الأصل كانت تكذب حتى تثير غضب ذلك المعتوة أكثر، خرجوا جميعًا دون أن يتفوه أحدهم بكلمة، ماعدا خالد الذي كان ينظر لها بحنق وتوعد على ما فعلته وخصوصًا أنها تحدثت مع ذلك العمار، فهو يبغضه ولا يطيقه، تجاهلت نظراته بإطفائها للاضاءة ودثرت نفسها جيدًا تحت الغطاء وسمحت لدموعها الحبيسة أن تهبط بصمت على وجنيتها، تأكدت من خروجه عندما سمعته يتجادل مع جدتها ووالده بحدة في الخارج، أمسكت هاتفها وأجرت اتصال بابن عمها تطلب منه أن يأتى ويأخذها في الصباح وكما توقعت قبل اتصالها لهفته في الرد عليها وسعادته الكبيرة بقرارها، مؤكدًا أنه سيكون في الموعد المحدد أمامها، ابتسمت بحزن على سذاجتها لقد تركت حب حقيقي يتلهف لرؤيتها أو حتى سماع صوتها ، وركضت خلف سراب…
فاقت من شرودها على يد أمامها تلوح بقوة …انتبهت له فما كان إلا ابن عمها عمار، الذي منذ مجيئها لا يفارقها أبدًا، قائلًا بحب وابتسامة على وجهه : سرحانة في إيه فريدة
أرسلت له ابتسامة صافية وقالت : في البحر، البحر حلو أوي يا عمار.
بعد أن كان جاثٍ على ركبتيه أمامها اعتدل وجلس بجانبه ونظر للمياه بحب قائلًا بنبرة تحمل حزن : كان ممكن تعيشي قدامه عمرك كله، بس أنتي اختريتي البعد اخترتي القاهرة.
التفتت له وقالت مبررة : أنا اخترت هناك عشان تيتة لوحدها ومتعلقه بيا وأنا كمان روحي فيها.
وقبل أن تكمل حديثها، قطعه هو بنبرة قوية : روحك فيها، ولا في حد تاني.
تصاعدت الدماء لوجنيتها، فالأول مرة يتحدث معها عمار بتلك الجرأة وأيضًا بتلك النبرة، كادت تتحدث متلعثمة كاذبة، ولكنها صمتت لبرهة وهي تنظر له وتقرأ ما في عينيه، فوجدت نفسها تقول : كانت روحي فيه، بس خلاص فوقت لنفسي، وعرفت قيمتي عنده، وعرفت قيمتي عند نفسي، فوقت يا عمار، متخافش.
لم تتخيل أن تصل سعادته لهذا الحد عندما تفوهت بذلك الاعتراف، فوجدته يجذب يديها ويقبلها برقة قائلًا بحب: أيوة كدة فوقي واعرفي إنك غالية أوي يا فريدة، أنا كنت هاموت وأنا شايف الحب في عنيكي لحد مايستاهلش ولا مقدره، فوقي بقى واعرفي مين عنده يبيع الدنيا كلها عشانك، وعشان يشوف ضحكة تنور عيونك ووشك…
على جانب آخر ليس ببعيد عن فريدة وعمار، كان يقف كلًا من خالد وأدهم يتابعان فريدة بصمت، وما إن رأى خالد يد فريدة التي كان يقبلها عمار بأريحية، حتى تصاعدت شرارات الغضب بداخله، فتقدم منهم، وهو عازم أن يفصل رأس ذلك الأبلة عن جسده، كيف له أن يتجرأ ويمسك يديها بتلك الأريحية، والأدهى من ذلك يقبلها أيضًا ، عارض طريقه جسد صديقه القوي وهو يدفعه للخلف قائلًا بحسم : أنت رايح فين يا خالد.
حاول خالد أن يبعده عن طريقه قائلًا بخشونة : اوعى من وشي ماشوف الزفتة دي إزاي تسمحله يمسك إيدها بالشكل ده.
تحدث أدهم مستنكرًا من حديث صديقه : وفيها إيه هو مش ابن عمها، زي ما أنت ابن خالتها،وبتمسك إيديها عادي.
رفع خالد أحد حاجبيه ليقول بحزم : أنا غيره يا أدهم، أنا غيره، فاهم ولا لأ.
هز أدهم رأسه بنفي ليقول بنبرة تحمل السخرية : لا مش فاهم الصراحة، أنت يابني ولا خطيبها ولا حتى حبيبها عشان تتحكم فيها كدة.
حاول خالد أن يبعده عنه ليقول بغضب : طب ابعد من وشي، مدام أنت مش فاهم حاجة.
أوقفه أدهم مرة أخرى بسؤاله الجاد : خالد ، فريدة بالنسبالك إيه، أنت بتحبها زي ماهي بتحبك.
هرب خالد بنظراته من صديقه والتزم الصمت، فعاد أدهم وسأله مجددًا: خالد رد عليا، أنت بتحب فريدة ولا لأ؟!
تحدث خالد ليجيبه : آه طبعا بحبها أومال بكرها.
زفر أدهم بحنق وقال : أنت فاهم كلامي كويس يا خالد، وبلاش تحور عليا.
نظر خالد للأسفل وخرج صوته حائرًا : مش عارف صدقني، كل اللي أنا عاوزه إنها تيجي معايا وبس.
ابتسم أدهم وقال باستنكار: مش عارف!!، أنا أقولك يا صاحبي أنت اتعودت إن فريدة تجري وراك، واتعودت إنك تمتلكها، وده اللى جبنا هنا، التملك ، أنت عاوزها ترجع عشان تفرض شخصيتك عليها تاني.
كاد أن يتحدث لولا صوت فريدة المتعجب : خالد أنت بتعمل إيه هنا!!.
التفت أدهم لها وتحدث بعتاب : خالد بيعمل إيه هنا، وأنا كويس جوافة يا ست فريدة.
قهقهت بخفة لتقول بابتسامة واسعة : لا طبعًا، أنت الخير والبركة.
صمتت لبرهة لتعود وتتحدث ببلاهة : اوعى يكون البت نهال بعتتك هنا عشان تجبني، أنا كنت هاجي لوحدي النهاردة بليل، كنت هاخلي عمار يوصلني.
صدم عمار من قرارها المفاجئ ليتحدث بعبوس : أنتي راجعة النهاردة احنا ملحقناش نشبع منك.
التفتت له لتتحدث مبررة قرارها : جدتي وحشتنى يا عمار، متعودتش أبعد عنها، وبعدين أنت ناسي امتحاناتي على الأبواب ولازم أركز في الدراسة شوية…
صمتت لتستشف مدى تأثير حديثها عليه، فوجدته مازال عابس، أمسكت يديه تتحدث برجاء ألا يحزن بسبب قرارها : عشان خاطري متزعلش مني، وعد هاجي في إجازة نص سنة وهاقضيها كلها معاكوا.
ربت عمار على يديها بحب وقال : ماشي يا ديدي هاستناكي.
كاد أن يخرج من فمه قذائف في وجه ذلك الأبلة، ولكنه تماسك لآخر لحظة وقام بجذب يديها بسرعة : طب يالا عشان نجيب حاجتك ونروح.
جذبت يديها بقوة وتحدثت : أنا قولت هاروح مع عمار بليل، زي ما جيت روح تاني.
اقترب منها وعروق وجهه تنتفض بغضب من لهجتها تلك، كيف لها أن تتجرأ وتتحدث معه هكذا : أنتي اتجننت..
قطع حديثه يد عمار التب دفعته بعيدًا عنها قائلًا بخشونة : في إيه هي قالت إيه غلط عشان تزعقلها كدة، أنا زي ما جبتها هاروحها، يالا يا فريدة.
نظرت لخالد بقوة وتحدٍ في آن واحد، وأرسلت له نظرة أخيرة قبل أن تتحرك وكأنها تقول لها، انتهت تلك الساذجة على يدك أيها المعتوه!، تقدمت مع عمار متجاهلة نظرات خالد الحانقة والغاضبة، التفت لصديقه فوجده ينظر لها بإعجاب عما فعلته فقال بزعق : أنت بتضحك عشان كلمتني كدة يا أدهم، مبسوط منها، والله لأربيها لما ترجع.
ابتسم أدهم باستنكار ثم قال : مظنش يا خالد، فريدة القديمة ماتت، وظهرت مكانها واحدة تانية، واحدة لسه هنتعرف عليها واحدة، واحدة، استعد بقى…
التفت هو الآخر ليذهب صوب سيارته وبداخله سعادة بتغيرها البسيط، فحان الوقت أن تربي خالد وتذيقه ما أذاقه لها على مدار كل تلك السنوات!!.
أما خالد فكان يقف مصدومًا منها أولًا ومن صديقه ثانيًا…هز رأسه برفض ليقول لنفسه : قال تربيني قال، ماشي يا فريدة هتشوفي اللي عمرك ما شوفتيه!.
ذهبت معه تريد أن تلتف وتراه ولكن قلبها يوبخها بشدة يقول لها أن تبتعد عمن يؤلمها وتقترب لمن يريدها ويحبها لمن يتمنى فقط أن تحبه ربع مقدار حبه لها وضعت كفيها على عنقها تخلع سلسال فضي محفور به اسمه ، كورت كفها عليه لثوانٍ ثم ألقت به بقوة وسط الأمواج ومع ارتطامه كانت آخر لحظة تردد وقهر لقلبها ، قبضت على يد عمار وقررت أن تمنح لقلبها معه الفرصة لعلها تراه غير أخيها وتختفي هي وهو تحت أنظاره هناك بجوار صديقه ولأول مرة يشعر بالوجع والخسارة
وأتت الرياح بما لا تشتهيه سفنه وانسدل الستار هنا بيننا ولم ينسدل هناك بينهم فالطريق طويل جداً قد يصل إلى ما لا نهاية