رواية عشرون رساله قبل الوقوع في الخطيئه الفصل الثالث
_الفصل الثالث_
إرتعدت فرائصها و إنكمش قلبها خوفًا لينتشلها من خوفها صوت رسالة قد أتتها منهُ..
فتحت رسالته لتجده قد بعث إليها برابط ، إمتنعت عن فتحُه ليرسل إليها يقول :افتحي اللينك هتلاقي هديه مستنياكِ.
كتبت له برعب قد تمكن منها: هدية إيه؟
لم يُجِبها ، خوفُها كبير ، و لكنّ فضولها بات أكبر!
ضغطت الرابط لتجده خاص بمجموعة عامه ، و فجأة ، ظهر لها مقطع فيديو لها وهي داخل غرفة تبديل الملابس آنذاك و لكنّ وجهها غير واضح المعالم ، لقد قام بتشويش صورتها قاصدًا الضغط عليها أكثر..
أرسل إليها برساله يقول: شوفتي..!! الفيديو مرفوع بقاله نص ساعه بس و جايب الاف الكومنتات و اللايكات ، قفلت الشير أهو عشان خايف عليكي.. بس لو معقلتيش كده وعملنا اللي إتفقنا عليه هفتح الشير و هنزل الفيديو بصورتك و هتبقااا مدعكه يا شقيق!
إنهار قلبهاا وجلست تنتحب ، ماذا تفعل؟
عليها أن تنجو و تنشل نفسها من ذلك الهلاك المحتوم !
أخذت حمامًا باردًا لعلّه قادر على تهدئة داخلها المضطرب..
كانت تقف أمام مرآتها شارده! ؛ هل تنساق خلف تهديدات ذلك الشيطـان الأرعن!؟ ، تنجرف وراء طلباتُه و تُقضي العُمر مُهدّده؟!
لا ، عليها أن تتوقف عن تلبية مطالِبُه و لكنّ قبل ذلك… لا بُد أن تخبر والدها.
خرجت من غرفتها ثم ذهبت إلي والدها ، بحثت عنه في غرفته ، شرفته، لم تجدهُ!
ثوانٍ معدوده و رأته قد ولچ من الباب وقد تبدلت ملامحه..
هرعت إليه و تسائلت : مالك يا بابا؟
تحدث بلهاثٍ حزين وقال: عمك متولي..
وإنقطع صوتهُ يُحاول جاهدًا تهدئة أنفاسهُ المتلاحقه لتعطيه كوبًا من الماء وقالت: طيب إرتاح الأول!
جلس علي الكرسي مهمومًا آسفًا يتجرع كأس المياه ثم أعطاهُ لها وهو يستطرد ما بدأه فقال: عمك متولي وقع في القهوة و نقلناه عالمستشفي.
إنفرچ فاها بصدمةٍ ثم قالت: يا حبيبــي!! حصله إيه؟
رفع كَتِفيه دلاله علي جهله ثم قال : معرفش لسه، أنا سيبتهم هناك و جاي أغير هدومي وأخدك ونروح.
ثم نهض قائمًا وقال: غيري هدومك بسرعه علي ما ألبس.
علي مضض ؛ نهضت فأبدلت ثيابها و وقفت تنتظره ، خرج من غرفته و إصطحبها للخـارج ثم إستقلّا سياره أجره إلي المشفـي.
دخلا إلي المشفي يهرولان ليقول والدها: أحمد هناك أهو تعالي نسأله.
هرول بإتجاهه ؛ ليراه الآخر يتقدم نحوه فذهب إليه..
_طمني يا أحمد.. إيه الأخبار؟
=طيب تعالي يا عمي مهدي إرتاح الأول..
قالها “أحمد” وهويسحب يده لِيجلسهُ علي أحد مقاعد الإستراحه ثم جلس ألي جواره وقال: الدكتور قال إنه أتعرض لِـ ذبحه صدريه!
تمتم “مهدي” متعجبًا: ذبحه صدريه ؟!! يبقا أكيد زعل من حاجه، إنت زعلته يا أحمد؟
إبتسم أحمد بهدوء وقال: أبدًا والله يا عمي، اللي حصل له بسبب إنسداد في الشريان التاجي مش بسبب حاجه تانيه..
_طيب وهو عامل إيه دلوقتي ؟
=إتحسن الحمدلله شويه، إتفضل حضرتك شوفه.
ذهب “مهدي” إلي الغرفه التي يرقد بها صديقه ثم عاد ” أحمد” أدراجه ليصافح تلك البائسه التي تقف مسنوده إلي جدارٍ أمام الغرفه.
_إزيك يا آصال؟ عاش من شافك!
قالها ” أحمد” بعتابٍ صريح ليتجهم وجهها فقالت: إزيك يا أحمد.. أنا كويسه الحمد لله.
تجاهلت سؤالهُ الأخير .. كعادتها ؛ لا تُجيب سوي السؤال الذي تكون إجابتهُ محددة و تمتنع عن ذوي الإجابات المرهِقه!
إبتسم قائلًا: لسه زي مانتي! بتردي علي اللي علي مزاجك بس، مش كده ؟
أومأت بإبتسامه ثم قالت: كويس إنك لسه فاكر..
ثم نظرت أمامها بشرود وقالت: يااه لو أيام زمان ترجع! أيام الروقان و راحة البال..
نظر أمامه بشرود مماثل ليبتسم متذكرًا فقال: تقصدي أيام المقالب اللي كنتي بتعمليها فينا أنا و ” تميم”..
عنذ تلك السيرة ، إقشعر بدنها و إنتفض داخلها ثم قالت: ” تميم” !!
و تابعت تقول: تميم من ساعة ما سافر مفكرش يطمن عليا ! بقاله سنتين و زيادة!
_ معلش، أكيد مشغول في شغله وحياته اللي هناك..
أومأت قائلة: مشغول ولا لأ..كله محصل بعضه.
ثم نظرت إليه بإبتسامه طفوليه خاصه بهِ فقط وقالت : مش أنا إشتغلت!
أومأ مؤكدًا وقال: في شركة المسلماني!
إنعثقد ما بين حاجبيها بتعجب ثم قالت: عرفت منين؟
أدار وجههُ بإرتباك ثم قال: هكون عرفت منين يعني؟ منتي عارفه بابا، بيبلغني الأخبار أول بأول.
أومأت بموافقه ليقول: والشغل هناك كويس؟
_كويس.. لسه بقالي يومين بس، قوللي إنت إيه جديدك؟ مش هتخطب؟
إلتـوي قلبه قائلًا: جديدي زي قديمي مفيش فرق.
_إنت بتلعب لعبتي يعني!! مااشي..
…
علي الجانب الآخر في غرفة ” متولي ” .
كان مهدي يجلس إلى جانبه علي الفراش ليقول: حمدالله على سلامتك يا أبو أحمد.
تحدث متولي بتعب وقال: الله يسلمك يا مهدي، الحمد لله صاحبك عَفي وقط بسبع ارواح..
قهقه عاليًا ثم قال مربتًا علي صدره: ربنا يعطيك الصحه والعافيه وطول العمر يرب.
أمّن متولي ثم قال : شايف جوز الكناريا اللي هناك دول ، أنا دلوقتي بقيت بومب.
نظر مهدي إلي حيث ينظر رفيقه ليجده يشير إلي إبنته و أحمد فنظر إليه مجددًا وقال: متولي.. متعشمش نفسك ولا تعشم إبنك بحاجه ، أنا عارفك زنان و بتفضل تملي ودانه بالكلام، سيبهم صحاب و خلينا إحنا كمان اخوات وحبايب أحسن..
إعترض الآخر فقال: وهو يعني مينفعش نكون اخوات وحبايب ونسايب؟! لازم حاجه واحده منهم!! وبعدين أنا لا بعشم نفسي ولا بعشم إبني ، الواد يا حبة عين ابوه متعشم من صغره، منتا راسي علي كل حاجه من وهما عيال صغيره بيلعبوا مع بعض..
تنهد مهدي قائلاً: أدي إنت بعضمة لسانك قولت، عياال، يعني الكلام ده كان زمان، دلوقتي كل شئ إختلف..
_لا ياخويا لو إختلف صحيح يبقا من ناحية بنتك، أنا إبني لسه لحد دلوقتي بيحبها وعينه منهاا.. شوف بنتك بقاا.
=وأنا مش هضغط علي البنت يا متولي، بنتي وانا عارفها عندها طموح و أحلام عايزة تحققها، يستحيل أغصب عليها ترتبط وهي مش عايزة..
إنتابه الغضب قليلًا وقال حانقًا: ماشي يا مهدي علي راحتك.. مهو لو صاحبك وعشرة عمرك ليه غلاوة عندك كنت إتكلمت مع بنتك وأقنعتها..
تبسّم الآخر بلطف وقال: يا راجل إتقي الله، بقا عايزني أجاملك علي حساب مصلحة بنتي وراحتها!!
_وإحنا هنقل راحة بنتك في إيه أنا ولا إبني يا مهدي؟
تنهد مهدي بيأس قائلًا: طبعك ولا هتشتريه، طول عمرك بتحب تجادل حتي لو غلطان، وأنا بقا بحب أعمل بقول حبيبك النبي لما قال ” رحم الله امرئ ترك الجدال ولو كان محقًا “.
_عليه أفضل الصلاة والسلام.. معلش بقا صاحبك علي عيبه.
نهض مهدي واقفًا وقال: أنا هروح البيت أريح ساعتين وأبقا أرجعلك ..
و إستطرد ساخرًا: وتاني مره متبقاش تتعافي علي نفسك في الطاوله.. مش ضامنين المره الجايه يحصلك إيه.. سلام.
…..
إصطحب إبنته وغادر من المشفي عائدًا إلي البيت ، دخل غرفته و بقيت هي في غرفتها ، ذرعت الغرفه ذهابًا و إيابًا .
حدثت نفسها فقالت: خليكي شجاعه يا آصال، ده وقتهااا.
ذهبت إلي حيث يحلس في مكانهُ المعتاد ولكنها لم تجده !
إستمعت إلي صوته يصلي قبل أن تستمع إلي صوت هاتفه وقد أعلن عن وصول رساله جديده..
إلتقطت الهاتف و فتحته لتجد رساله مفادها أن ” معايا حاجه تخص بنتك، لو عايز تعرف هي إيه كلمني ”
هوي قلبها أرضًا و سقط الهاتف من بين يديها مثلما سقطت دمعاتها المسكينه..
إستمعت إلي صوت والدها يكاد أن يُنهي صلاتهُ فإنحنت تلتقط الهاتف بسرعه و قامت بحذف الرساله و من بعدها قامت بحظر الرقم من علي الهاتف..
إنتبه إليها والدها ، إلي توترها و تخبطها فسألها : مالك يا آصال و مين اللي بعت رساله؟
أجابت بأحرف متقطعه: دااا.. ده من ڤودافون يا بابا، رساله مش مهمه..
أومأ برأسهِ ثم قال وهو يشير إليها أن تتقدم نحوه : تعالي.
تقدمت منه وهي تفرك أصابعها بتوتر فقال: اقعدي يا آصال.. كنت لسه هناديكي.. اقعدي عايز اتكلم معاكي.
جلست أمامه ليمنحها إبتسامه مطمئنَه ثم قال: عمك متولي كلمني تاني النهارده في موضوعك إنتي وأحمد..
تنهدت بملل وقالت: موضوعي إيه يا بابا هو بيني وبين أحمد مواضيع؟!! وبعدين حضرتك عارف رأيي و قولتلك مية مره أحمد ده أخويااا..
_لا مش أخوكي يا آصال، أبوكي إسمه مهدي وأبوه إسمه متولي، أمك إسمها غاليه وأمه إسمها كريمه، تبقوا اخوات منين بقاا!
= مش شرط نكون اخوات بالدم يا بابا، اللي بيننا اكبر من الاخوة، أنا وهو وتميم كنا دايمًا سوا ، علاقتنا تخطت الصحوبيه و الاخوه كمان، بقينا واحد، أخوتهم من ضمن الثوابت اللي كبرت عليها ، ازاي حضرتك دلوقتي عايز تقنعني أبصلهم نظرة تانيه!
أجاب بتلقائيه: زي ما هما نظرتهم ليكي اتغيرت ، أحمد من صغره متعلق بيكي وعارف انك رفضاه ،و تميم ساب بلده وأهله وإتغرب عشانك..
_لو سمحت يا بابا متقولش عشاني..
=لا عشانك ، و بسببك ، لما يفضل عمره كله بيشقي ويكافح وهو متخيل إنكوا لبعض وييجي في لحظه يتصدم إن كل دي أوهام يبقا عشانك و بسببك..
سالت دمعاتها قِسرًا وقالت بنبرة أشبه للقهر و كإنما تقف الآن أمام جلّادً وليس والدها وعليها أن تبرر موقفها..
_حضرتك ليه مصمم تشيلني الذنب، تميم أنا معشمتوش بحاجه، عمري ما قولت اني بحبه،ولا عمري إتصرفت علي الأساس ده!
= بس كنتي عارفه إنه بيحبك، ياما إعترفلك بحبه وفي المقابل إنتي كنتي بتعملي إيه؟!
جففت وجهها وقالت: كنت بسكت!
=مهو ده أكبر غلط، كنتي بتسكتي و كإن كلامه عاجبك ، و كإنك موافقه عليه أو بتبادليه نفس الشعور ، كان المفروض تواجهيه بحقيقة مشاعرك وقتها وتقوليله أنا مش شايفاك غير أخ وبس، تخليه يقطع حبال الأمل اللي كان متشعلق فيها لحد ما خنقته.
ألقي كلماته الأخيره بحده أفزعتها لتنظر إليه وقد فاض نهر عيناها مجددًا..
إنه عاد من جديد ليُلقي اللوم عليها ، عليها أن تحمل هموم العالم أجمع فوق رأسها و كإنه كانت تنقصها الهموم.
حنّ قلبه لرؤية صغيرته بتلك الحـال..
تمتم مستغفرًا وقال: علي العموم الكلام ده فات أوانه خلاص، هو نسي و عاش حياته وإتجوز وماشاء الله عليه بقا من أنجح مهندسين التكنولوجيا الحديثة دلوقتي..
تفوهت بحنق: حضرتك بتقوللي الكلام ده ليه؟
_بفهمك يا بنت قلبي ، بفهمك حال الدنيا اللي مبتقفش علي حد ، بفهمك يمكن كلمتي تنجيكي من شرٍ ما في بوم من الأيام.
و كإنه دعس بقدماه فوق جُرحٍ لن يندمل أبد ما حيت..
أغمضت عيناها و سحبت شهيقًـا طويلًا ملأت بهِ رئتيها ليقول: مالك بتعيطي ليه؟! هو الكلام اللي أنا قولته ده يستاهل العياط ده كله؟! ولا انتي زعلانه من حاجه و بتتلككي بقا؟؟
ودّت الخلاص فقالت: بابا.. كنت عايزة أتكلم مع حضرتك في موضوع..
أومأ متفهمًا ثم قال: قولي يروح بابا ، كلي آذان صاغية.
_ أنا واقـ…..
إبتلعت أحرفها عندما رنّ هاتفه لينقبض داخلها بذعر من هوية المتصل لتراه وقد أخرج هاتفه من جيبهُ و أجاب : السلام عليكم ، مين بيتكلم؟
إنزوي ما بين حاجبيه بتعجب و ردد قائلًا : مين معايا؟!!
برز صوتها مرتعشًا: خلاص يا بابا إقفل أكيد حد بيستظرف..
أشار لها بيديه أن تنتظر و قال بحدة: ألووو.. مين حضرتك ؟؟
ابتلعت لعابها بخوف لتراه وقد إتسعت عيناه بفرحه وهو يقول: مش معقوول.. تميم!!!.. إنت بتتكلم منين؟! بتهزر؟!! طيب إنت فين دلوقتي ؟! تعالي علي البيت فورًاا.. يلا مستنيينك.
أنهي المكالمه وهو ينظر إليها فَرِحًا ثم قال: مش هتصدقي.. تميم إبن عمك نزل مصر وهو دلوقتي في طريقه لينا.
إبتسمت بهدوء ينافي تمامًا تلك الضوضاء بداخلها وقالت بنبره مبهمه: إبن حلال، الظاهر كده إنه جه في الوقت المناسب.
….
عادت إلي غرفتها لتجد هاتفها وقد وصلته رساله من هجين الشيطان ذاك يقول : ” تجاهلتي كلامي وأنا موتي و سمي اللي يتجاهلني، دي قرصة ودن صغيره بس عشان تفكرك إني فوق راسك منين ما تروحي ، لسه لك يومين!! اليوم التالت مخصوم منك عشان تبقي تتعلمي متتجاهليش كلامي مرة تانيه.. لو اليومين خلصوا و الفلوس مجتش او انتي مجيتيش، أنا المره الجايه مش هكتفي برسايل ولا بصورتين ، هيكون فيها دمارك! ”
لا عجب إن قالت أن عيناها قد جفت منها الدموع ، أو أن إحساسها قد تجمد ولم تعد تشعر ..
لقد مات قلبها و إندثر شعورها تحت أنقاض الهزائم و الخيبات.
فتحت خزانتها و أخرجت دفترها..
دائمًا و أبدًا ستظل الكتابه هي وسيلتها الوحيده في البوح عمّا يصعب نطقه.
~~الرسالة الثانيه~~
” إلي نفسي المتعبه..
لقد ظننتُ أن الخلاص سهلًا ، و أن الصدق أقصر الطرق إلي النجاه.
و نسيتُ أنه لا يُجدي نفعًا كما في حالتي..
ظننتُ كذلك أنّي قوية ، لديّ من التجلّد و الصبر ما يكفيني للمقاومه ، لديّ من الشجاعه ما يكفيني للمواجهه!
تبًا لقناعاتي المزيفه !!
فلقد أخبرت نفسي بذلك أيضًا يوم فقدت أمي ، يوم ضاع حلمي هباءً و لم أحصل علي العلامات الكافيه التي تؤهلني لدخول كليّتي المفضله وقتها ، حين خسرت أعزّ صديقاتي ، حين مات شغفي و خَبت قلبي و خارت قواي المزعومه..
يومها أدركت أنّي لست بقوية و لا أملك لا تجلدًا ولا صبرا .
لا أملك سوي خيبة أمل ترافقني في كل خطواتي و تعود معي في كل مرة كإنما تخشي مفارقتي.
بات المزاچ سيئًا ، ازدحام الهواجس في رأسي ينذرني بنوّه عنيفه ، قدماي تغوصان في الكآبه و الشك ، رغبات و مخاوف تتسابق ، و في المقابل.. إنصرف عني كل شئ و بقي الحزن حين لم يبقي أحد.
أشعر بأني لن أنجو تلك المرة!! ”
…….
إستمعت إلي صوت والدها يتحدث و يضحك مع احدهم فأدركت أنهُ قد وصل لتوّه.
أعادت دفترها حيث كان و خرجت من غرفتها ..
رآها تتقدم نحوه ، حبه الأزلي ، حبه الوحيد و الدائم ، تخطو نحوه بهدوء لا يلائم عيناها الحزينتان..
ماذا أصابها لتصبح هكذا ؟!
وجهها الفاتن صار شاحبًا ، عيناها و التي طالما أومضت بلمعة الشغف و الحياة لقد أطفأها الحزن ، لكنها لا تزال أنيقه.
أنيقه حتي في حزنها ..
ذلك السواد الذي أحاط بأسفل عيناها يمنحها أناقةً لا تنبغي لأحدٍ غيرها.
أمّا هي ، تقدمت وهي ترمقه بنظراتٍ لن ينساها أبد الدهر.
نظرات يمتزج فيها الحزن بخيبة الأمل..
إنه يعلم أنها لم تعشقه كما عشِقها ، و لكنه يعلم كذلك أنه كان بمثابة كل شئٍ لهاا.. دومًا كانت تنعته بـ ” نصفي الآخر ” .
كان بالنسبةِ لها الأخ، الرفيق ، الصديق ، الأب أحيانًا و القدوة.
تركها حين رحل عنها كل شئٍ تهواه ، لذا أدرك أن نظراتها تلك لم تكن سوي خذلانًا أخرسًا.
حين كانت علي مقرِبةٌ منه تبسّم وجهها بلطف ، نهض فصافحها وهو الذي تمني كثيرًا لو سحقها بين ضلوعهِ و أخبرها حينها كم إشتاقها.
القلبُ غاضبٌ و لكن الحب أقوي!
إبتسم قائلًا: يااااه ، مر سنتين بس لسه زي مانتي متغيرتيش.
سحبت يدها بخفه من بين يديه وجلست إلي جانب والدها و دون أن ترمقه قالت: بس إنت اتغيرت.
لاحظ حدتها فسأل متعجبًا: من ناحيه؟؟
مطت شفتيها لتبدو أكثر برودًا وقالت: كل حاجه.
لقد عَلِم بمخططها الآن ، علي الأغلب إنها قد أعلنت عليهِ الحرب الباردة.
نهض والدها قائلًا : هحضر أنا العشاا و أسيبكوا تتكلمو من زمان مشوفتوش بعض.
نهضت هي قائلة: لا يا بابا خليك إنت وأنا هعمل العشا.. الكلام جاي وقته.
ذهبت إلي المطبخ و عيناه تتبعها ، لاحظهُ والدها فقال : حمدالله علي سلامتك يا تميم يبني ، نزلت إمتا!
نظر إلي عمه مبتسمًا وقال: الله يسلمك يا عمي.. لسه واصل النهارده…. طمني علي صحتك.
_الحمد لله يا حبيبي في نعمه، إنت ايه الدنيا معاك، وصلت لفين ؟
=الحمد لله يا عمي حاليًا بملك أكبر شركات لصناعة الأدويه في كندا، إتجوزت بنت مسلمه إسمها ” يوستينا ” و حامل دلوقتي و قربت تولد..
_ بسم الله ماشاء الله ، و مجيبتهاش معاك ليه نتعرف عليها؟
=بصراحه هي محبتش تنزل وأنا محبتش أضغط عليها ، فضلت مع أهلها هناك وأنا جيت.
_طب ده أجدع قرار أخدته، إنك نزلت مصر، واحشني والله يا تميم.
=وانتوا كمان وحشتوني جدا يا عمي..
نظر إلي المطبخ وقال: آصال أخبارها إيه يا عمي؟
تنهد مهدي قائلًا: الحمد لله يبني، كويسه.
_متغيره!!
إبتسم مهدي بحزن وقال: إنت عارف آخر سنتين دول مكانوش سهلين أبدًا.. موت أمها الله يرحمها ، و بعدها حبيبه صاحبتها سافرت فرنسا مع جوزها و مبقيتش تسأل عنها خاالص و انقطعت أخبارها..
صمت قليلًا ثم تابع: و جه سفرك إنت كمان كمل عليها.
تنهد تميم بشفقةٍ ثم قال: أنا آسف يا عمي ، ده كان الحل الوحيد وقتها عشان أقدر أنسي و أتعافي و أقدر أكمل..
هز الآخر رأسه بتوكيد ثم قال: معاك حق يبني ، مسير الأيام تداوي كتير.
أعدّت مائدة الطعام فنهض كلًا منهما ليجلسوا عليها ، بدأ الجميع في تناول الطعام فنظر إليها قائلًا : إيه أخبار يا آصال؟! إشتغلتي ولا لسه؟
أجابت دون أن تنظر له: أيوة إشتغلت في شركة المسلماني ، أكيد تعرفها.
أومأ موافقًا وقال: أعرفها طبعًا ، ومين ميعرفهاش .
ثم نظر إليها وقال: ربنا يوفقك إن شاء الله.
أومأت برأسها دون إهتمام وتابعت طعامها ليستوقفها صوت هاتفها وقد أعلن عن إستقبال رساله..
توقف الطعام بحلقها فنهضت عن المائده تحت زوجين مترقبين من الأعين ..
ذهبت الى غرفتها وتناولت الهاتف بخوف و فتحته لتجد رسالة قد أصابتها بالموت البطئ…
” رنيت عليكي ، مصممه تتجاهليني؟! ، ولا مشغوله مع الضيف الغالي؟”
لا تعلم أية بلاهة تلك التي أصابتها لتجعلها تتلفت حولها بذعر و كإنها ستجد ضالتها إن بحثت؟!
تمكّن منها الخوف و سار الرعب بقلبها كما تسير الدماء بالوريد..
أغلقت هاتفها و أغلقت باب غرفتها ثم أطفأت المصابيح..
دخلت إلي فراشها و سحبت ذلك الحِرام و أخبأت وجهها..
أغمضت عيناها خِشية أن يتسلل ذلك المجهول في الخفاء و يُدمي قلبها أكثر ثم راحت في سُباتٍ عميـــق..!
……….
كان ” معتز” يجلس في مكتبه ، يتطلع نحو الكاميرات الموجودة أمامه علّه يراها أثناء مجيئها..
صدق حدسه و وقعت عليها عيناه وهي تدلف من الباب الرئيسي و منه إلي مكتبها..
نهض علي الفور و ذهب إليها آخذًا بضعة ملفات ، طرق الباب فأذنت له بالدخول ..
دلف ليجدها تضع رأسها بين كفّاها بـغمّ.
_صباح الخير يا آصال، إيه ده مالك؟
إعتدلت بمجلسها علي الفور و جلست بتأهب لتجده وقد جلس أمامها علي كرسي مكتبها المتواضع وقال: مالك تعبانه ولا إيه؟
أومأت برأسها أن لا ثم قالت: اتفضل حضرتك محتاج حاجه ؟
وضع الملفات من بين يديه علي سطح المكتب أمامها وقال: معلش لو هتعبك راجعي الملفات دي علي ما تيجي رقيه هانم..
نظرت في ساعة الحائط أمامها وقالت: إتأخرت النهارده..
أومأ موافقًا وقال: اممم.. تلاقيها غطسانه في سابع نوم شبه أهل الكهـف، شركة أبوها بقا وإحنا الموظفين عندها.
أراد أن تبتسم لذا ألقي دعابته تلك التي لم تُجدي نفعًا فقال بجدّيه : لااا ده الموضوع شكله كبير بقاا، قوليلي مالك بجد.
ملأت الدموع عيناها و طفقت تبكي دون توقف وهي تخفض رأسها أرضًا كي لا يراها..
أصابه الضيق لرؤيتها بتلك الحال فقال: مالك يا بنتي ما تنطقي؟! شكلك حد مغرغر بيكي ولا إيه؟
ظنّ انه سيضحكها ولكن لم يحدث فقال: علي فكره لو خايفه تحكيلي أحب أطمنك إنك وقعتي في أحسن حد ممكن يسمع و يتناقش و يدور معاكي علي حلول كمان.. يلا قولي..
نظرت إليه تستشعر صدقه فطمأنها قائلًا: يستي إخلصي أقسم بالله كلامك ما هيطلع لحد..
أخفضت رأسها بخزي و توتر وقالت: أنا واقعه في مشكله كبيره جدا..
قاطعها قائلًا: مشكلة إيه؟
تلجم لسانها فقال بتفهم: ماشي خلاص مش عايز أعرف تفاصيل ، قوليلي أساعدك إزاي؟
تراقصت الأحرف فوق شفاها وقالت: محتاجه نص مليون جنيه.
تقوّس حاجبيه بدهشه وقال: يا نهار ابيض ، إنتي بتهربي مخـ.ـدرات ولا إيه؟!
أصابها اليأس من حديثه ليقول متراجعًا : خلاص خلاص أنا آسف مش ههزر تاني..و المبلغ اعتبريه عندك.
إنتبهت جميع حواسّها وقالت: مش فاهمه!
_إعتبري المبلغ عندك.. المبلغ عندك إعتبريه.. إيه اللي مش مفهوم في الجمله ؟ إديني ثانيتين..
هزت رأسها بإستفهام لينهض واقفاً يقول: بقوللك اديني ثانيتين..
غادر المكتب و ذهب إلي مكتب ” رياض ” طرق الباب و دلف مسرعًا..
_ رياض أنا مزنوق في نص مليون جنيه..
طالعه الآخر بهدوء ثم قال: و جاي تقوللي ليه يا معتز؟! قولتلك قبل كده لو إحتجت أي حاجه مش محتاج تستأذن، فلوسي هي فلوسك و كل شيء بملكه تحت رجليك..
إبتسم معتز بتقدير ثم قال: تراني اتأثرت، لحظه أبكي..
إلتوي ثغره بنزق متمتمًا: يا أخي إنت متعرفش تكون جد أبدًا ؟! هتعيش و تموت هلّاس.
_لأ بجد يا رياض أنا بشكرك، ربنا يخليك بجد..
ثم أسرع بإتجاهه ركض وهو يقول : هات بوسه.
عاد الآخر بكرسيه للخلف وهو ينظر إليه بإشمئزاز ويقول: بطّل بقا حركات الهبل بتاعك ده .. الله ياخدك.
طُرِق الباب و دلفت ” رقيه” لتتيبس قدماها بالأرض عندما رأتهم بذلك القرب فقال معتز : مش تستأذني يا رقيه الأول، مش معقول كده الواحد مش عارف ياخد راحته أبدًاا في مكتبه..
نظرت رقيه إلي رياض الذي راح يتطلع نحو معتز بإندهاش ليعتدل معتز قائلًا : أنا ماشي دلوقتي ، أبقا أجيلك وقت تاني بقا تكون لوحدك.
إرتفع حاجبيّ الآخر بصدمه من مزاح صديقه الذي لا يتوقف عند حد أبدًا ثم نظر إلي تلك المندهشه وقال : مالك متنحه ليه إنتي كمان، يعني مش عارفه جنانه.. خلصي هاتي الورق..
عاد معتز إلي مكتب ” آصال ” و بحوزته حقيبه جلديه بها المبلغ ، وضعها أمامها علي سطح المكتب وقال : اتفضلي يا ستي النص مليون جنيه.
نظرت إليه وقد جخظت عيناها بصدمه و إندهاش وقالت: معقوله؟! حضرتك قدرت تتصرف في المبلغ بالسرعه دي؟!
أومأ قائلًا : أومال انتي فاكره إيه؟! أصل رياض ده علي قلبه قد كده، اللهم لا حسد يعني.
_هما من مستر رياض؟!
=هما من مستر رياض بس أنا اللي هسدهم ، يعني دول دين عليا أنا مش عليكي إنتي ، يعني إعتبري إنك مخدتيش حاجه ،أنا هرجعهم.
_لا طبعًا أنا هسددهم لحضرتك أول ما الوقت يسمح..
أراد أن ينهي الجدال فقال : ماشي يا ستي براحتك ، بقولك إيه ؟!
هزت رأسها بإستفهام ليقول وهو يحك ذقنه: حيث كده بقا مفيش معاكي ٢٠٠ ألف كده أقضي بيهم مصلحه؟
تجهم وجهها ليضحك قائلا: جري إيه يا بنتي هو إنتي مبتهزريش أبدًا ؟! عامله زيي أنا كمان جد جدًا ومليش في الهزار والمرقعه..
أومأت وهي تحاول أن تخفي إبتسامتها ليستطرد قائلًا : إنما بقا عندك رياض.. ييييييه.. مسخره.. حاي دايمًا أنا بقولله يا أخي إتكلم جد بقاا مش معقول كده هتعيش وتموت هلّاس!
_والله؟!
=أه أومال انا هكذب ولا إيه؟!
_ لا العفو حضرتك.
=طيب يلا شوفي شغلك وبلاش كلام كتير و رغي ملوش لزمه.
نظرت إليه وهو يغادر مكتبها بصدمه سرعان ما تحولت إلي إبتسامه عرفت أخيرًا طريقها إلي شفتاها و راحت تمنّي نفسها بالخلاص من بين براثن ذلك اللعين.