( نوسيـن )
الفصل الثامن :
بوغتت نوسين بتواجدهما والخبر الصادم الذي ألقوه بوجهها… بل بقلبها كفتيل مشتعل، وظلت تبحث بين طيات عقلها عن اجابة مناسبة لسؤال عمته الذي بقيَ مُعلق بالهواء، ولكنها عجزت عن ذلك؛ وكأنها تبحث عن إبرة في كومة قش.
وفي عناية إلهية خرج “عمر” من شقته ليتفاجأ بوجودهما، وأمام نوسين المتصنمة أمامهما !
اقترب منهم بخطى سريعة نوعًا ما، ثم احتضن عمته قائلًا بود:
-ازيك يا حبيبتي عاملة إيه؟
بادلته بالمثل وتمتمت بخفوت بينما عيناها لازالت مُعلقة بـ نوسين:
-الحمدلله يا عمر أنت كويس؟
-الحمدلله، ازيك يا هند؟
ألقى نظرة سريعة نحو “هند” مصحوبة بإبتسامة متعرجة على خطوط شفتيه، قبل أن يتنحنح مشيرًا نحو نوسين، ليُعرفها ويُعرفهم لها بالمثل:
-دي نوسين، ودي عمتي سلمى، وهند.
سألته “سلمى” مستفسرة بحروف حاولت أن تُغطيها بثوب اللباقة الذي بدا مُرقع مع خروج حروفها:
-بس غريبة يعني قاعدة في شقة والدتك الله يرحمها ليه؟!
تأخرت اجابته لثانيتين فقط قبل أن تخرج بسلاسة كادت تُصيب قلب “نوسين” بذبحة صدرية:
-نوسين معرفة قديمة، وعندها شوية ظروف صعبة فـ اضطرينا لكدا.
هزت عمته “سلمى” رأسها موافقة على مضض، ولكن عمر قرأ في عينيها ما لم يفصح به لسانها، وفضل تجاهله.
اما نوسين فقد كانت تشتاط غضبًا من اجابته السخيفة!
أشار عمر لعمته وتلك المدعوة “هند” نحو باب شقته وأردف بهدوء:
-تعالوا طب ندخل.
وبالفعل تحركا ثلاثتهم صوب باب الشقة، تاركين نوسين تكز على أسنانها، تحاول منع لسانها السليط من الإنخراط في معركة كلامية حادة سيكسبها بالتأكيد، ولكنها ستخسر اشياء اخرى كثيرة في مقابلها.
دلف عمر معهما للمنزل، فقطعت “سلمى” الصمت مبررة سبب وجودهما الذي تعلم جيدًا أن عمر يكبح زمام السؤال عنه تقديرًا لها، ولكنه فشل في إرساؤه أرضًا فارتفع مخالطًا أمواج عينيه الزرقاء:
-أحنا كنا بنشتري شوية حاجات من مول قريب هنا، وقولت لهند لازم نعدي على عمر نشوفه.
يرى عمر ركاكة خيط الصدق في حروفها، ويعلم أنها جاءت بـ هند مخصوص لتفتح بينها وبين عمر بابًا مغلقًا، ولكنه رسم ابتسامة خفيفة توازي كلماته الودودة:
-نورتوا يا عمتي.
وبعد وقت قصير استهلكته تلك الجلسة بلا فائدة بالنسبة لعمر، على عكس “هند” التي كانت تحاول التقرب منه، تحاول اختراق الحدود التي وضعها لنفسه، وكالعادة فشلت في ذلك، ولكنها لم تيأس!
نهضت مع “سلمى” حين حان وقت الرحيل، وقالت بلهجة عاتبة تحمل تخبطها بين القنوط والأمل الطفيف:
-كان نفسي نقضي مع بعض وقت أكبر من كدا يا عمر، لكن للأسف لازم نمشي، أتمنى إننا نتقابل أي وقت تاني.
رده كان متكلف سياسي:
-إن شاء الله يا هند.
تنحنحت “هند” وهي تلتقط حقيبتها مرددة بهدوء:
-طب أنا هسبقك على العربية يا طنط سلمى.
-ماشي يا حبيبتي.
ردت بها سلمى التي كانت مصوبة بصرها نحو “عمر” الذي تأهب لنقاش جديد يحفظ بدايته ونهايته، وبالفعل ما أن غادرت “هند” حتى تكلمت سلمى بحنق عاتب:
-مش هتبطل تعامل البنت بالأسلوب الناشف دا يا عمر؟
واجهها بما ردده لها مرارًا:
-أنتي اللي بتعرضيها للموقف دا في كل مرة تجيبيها مكان أنا فيه.
هدرت فيه ببوادر إنفعال تطرقت لها كلماتها:
-يعني هي مش طايق تقعد معاها ساعتين على بعض، لكن غيرها بتجيبها تقعد في شقة والدتك وتبقى في وشك ٢٤ ساعة عادي.
تنهد عمر بصوت مسموع، وغامت عيناه بسُحب ماضيه المُظلم وكأنها توثق قوله وهو يخبرها بتروٍ بدأ يغادره:
-لا هي ولا غيرها، وفهمتك إن نوسين وضع مؤقت، أنا مش عايز أي واحدة قريبة مني، صعبة دي يا عمتي؟
سألته بقلبٍ قلق على حاله الذي لا يسر:
-امال عايز إيه يا عمر؟ عايز تفضل وحيد دايمًا كدا لحد ما وحدتك دي هتقتلك.
أكد دون تردد بصوتٍ خاوٍ:
-بالظبط، عايز كدا.
تجهمت ملامحها ولم تقدر على كبح الغضب الذي تشعب داخلها وجعلها تطرق حروفها كمطرقة لاهبة:
-براحتك يا عمر، براحتك أنا تعبت منك ومن دماغك الناشفة دي.
ثم تحركت لتغادر هي الاخرى بغضب صار يلازمها كلما دارت مع عمر في حديث حول نقطة الماضي التي يرفض النزوح عنها.
في نفس الوقت كانت نوسين تقف خلف باب الشقة التي تقطن بها، اذنيها ملتصقة بالباب مترصدة لأي صوت يصدر عن شقة عمر، فسمعت صوت الباب يُفتح وصوت خطى يبدو أنها لعمته التي تغادر، وأكد ظنونها قول عمر الآسف على شيء لم تعرفه:
-متزعليش يا عمتي، حقك عليا، وياريت مانفتحش الموضوع دا تاني بعد اذنك.
وبعد مغادرتها مباشرةً، فتحت “نوسين” باب الشقة، بعد أن وضعت على وجهها قناع الجمود، وفي يدها حقيبة صغيرة بها أشياء قليلة تخصها، عقد عمر ما بين حاجبيه متعجبًا وسألها:
-أنتي رايحة فين؟
ردها التالي كان جاهز في عقلها مُحمل بأعلام الغضب التي ارتفعت داخلها بسببه:
-أنا همشي عشان ماسببلكش احراج ولا تضطر تقول دي واحدة ظروفها صعبة ولا أي حاجة.
-وبعدين استنى إيه ظروفها صعبة دي؟! هو أنا بشحت منك، دا أنت اللي اتحايلت عليا على فكرة عشان أجي.
تابعت بأنفٍ مرفوعة بغرور غطى على سخطها، وأحسه لا يعلو فوق قمم وجهها إلا في حضرته؛ فانتابته رغبة ساخرة في جذبها من أنفها المرفوعة المتغطرسة تلك!
استعاد جموده سريعًا حين تابع بلامبالاة:
-بعيدًا عن الهبد اللي بتقوليه دا، بس كنتي عايزاني أرد اقولها إيه يعني!
أعرب حنقها عن وجوده علنًا حين صاحت فيه بعصبية:
-كان في ٣٠٠ رد ممكن ترده غير دا.
اقترب منها خطوتين، ثم أشار لها بإصبعه نحو الشقة لتدخل، فتحركت أقدامها بتلقائية مستجيبة لأمره المُبطن في إشارته ونظراته المُهيبة، دخل هو الاخر فأصبحا كلاهما داخل الشقة ولكن لا يزالا أمام الباب، فقال بخشونة حازمة:
-اولًا ماتعليش صوتك وأنتي بتكلميني، ثانيًا أنا بقا من ال٣٠٠ دول رديت الرد دا، وبعدين خلاص هرجع الزمن لـ ورا يعني؟!
-دا أنت…..
كاد لسانها ينفلت من جديد بسباب احتُجز في حلقها بسبب نظرته القوية المتأهبة، وقوله المتحدي الذي مرت عليه السخرية سريعًا فأصابته بجزءًا منها:
-أنا إيه بقا كملي كملي متخافيش؟
هزت كتفاها بلامبالاة وشجاعة زائفة أنكرت حدقتيها المهتزتين وجودها:
-أنا مابخافش على فكره وهخاف منك ليه هو أنت بُعبُع؟!
لم يُجاريها في سخريتها، بل أضاف بصلافة ملتزمًا بالوقوف على خط الجمود الذي يقيه من الانسياق خلف مشاعر حمقاء تهدده:
-ادخلي جوه.
نفت برأسها بعناد وإباء:
-لا مش هدخل أنا هامشي، لاعملك مشاكل مع عمتك وبنت عمتك اللي هي خطيبتك يعني.
نفى عمر ببساطة وتلقائية:
-دي مش بنت عمتي اصلًا.
فاعتقدت بسذاجتها أنه ابتلع طُعم الكلمة التي رمتها عمدًا ليُلقيها هو بتلقائية في سلة الخيال، وانتظرته يتابع قوله ويخبرها أنها ليست خطيبته ايضًا.
ولكن عمر قرأ أفكارها من بُندقيتاها اللتان اصبحتا شفافتان بالنسبة له بعد أن عاشرها لفترة لا بأس بها، فاتخذ قراره ألا يخبرها بذلك؛ ليُمزق خيوط العاطفة التي بدأت تُنسج له داخلها.
اهتاج وحش الغضب داخلها أكثر بعد أن غذته الغيرة التي أحرقت أوردتها دون أن تعي ماهيتها، فتفوهت بكمد:
-وأنا مالي هو أنا هحلل شجرة العيلة بتاعتكوا !
صمتت برهه، ثم إندفعت كلماتها التالية دون حسبان، مُنقادة خلف لهب الغيرة الذي يُطيح بتعقلها:
-وبعدين يعني فضلت تصيح ومراتي، واللي عملته فيا وفي مراتي، و في الاخر اصلًا أنت عايش حياتك ونسيت مراتك.
نجحت في نقل بركان الغضب لبقاعه هو، فاقترب منها باندفاع، وتراجعت بتلقائية حتى حُشرت بين جسده العريض والحائط من خلفها، فضرب عمر على الحائط بعنف ولطمت أنفاسه وجهها قبل أن تتدفق الشراسة منه حين تشدق:
-قولتلك مية مرة ماتتدخليش في اللي ملكيش فيه.
على عكس شجاعتها التي هُزمت أمام شراسته وعنفه وعَلى التوتر بدلًا منها، قالت بثبات ظاهري واهي:
-اهو أنت لما متلاقيش كلام تقوله تقول ملكيش فيه، هي الحقيقة دايمًا بتزعل كدا.
أرد أن يرد الصاع صاعين لها، فسألها بنبرة ذات مغزى:
-وأنتي اصلًا زعلانة ليه؟ هي مراتي دي كانت من بقية عيلتك؟
فقدت أي كلمات مناسبة لتكوين اجابة، كما توقع تمامًا، فأكمل ببرود مقتضب:
-ادخلي جوه.
-إيه جو سي السيد دا ؟! مش داخلة.
اعترضت بتذمر، فكرر بحزم:
-قولتلك ادخلي جوه يا نوسين.
لم تكن تملك سوى الانصياع لتلك القوة التي تشع من حدقتيه، وتجبرها على الخضوع وهي التي لطالما كانت نمرة شرسة لا تعرف معنى للخضوع، فتلفظت على مضض بسخرية:
-حاضر يا سي السيد.
ثم دخلت للغرفة بالفعل تحت أنظاره المتابعة لها، فخرج هو من المنزل صافعًا الباب خلفه، دبدبت بأقدامها على الأرض في غلٍ جعل من احشائها كالمرجل تغلي دون توقف.
****
مـر يومان..
كان شغل “نوسين” الشاغل مراقبة عمر، ومعرفة مَن يزوره، وترقب مجيء تلك الشابة الملونة بشكلٍ خاص!
تستسلم لِمَ يُمليه عليها صوتها الداخلي الذي بدأت تتكهن مصدره؛ ألا وهو قلبها المهتاج بالغيرة، ولكنها لا زالت تكتم الاعتراف بذلك.
كلما سمعت صوت باب شقة “عمر” يُفتح، فتحت بابها هي الاخرى فتحة صغيرة تستطيع التلصص خلفها ومعرفة شخصية الطارق، لاعنة ذلك الباب الذي ليس به “عين سحرية” لتنظر منها، واعتقدت أن عمر لم ينتبه لها في المرات السابقة.
حتى جاء هذا اليوم، كانت جالسة وبيدها كوب من الشاي تشربه حين سمعت صوت باب شقة عمر، فنهضت على الفور تاركة الكوب على المنضدة، ووقفت خلف الباب تحاول الاستماع لما يحدث، فلم يصلها أي صوت، لذا دون تفكير فتحت الباب ببطء كما كانت تفعل، ولكن هذه المرة لم ينقذها حظها كما تظن في كل مرة، بل رأت عينـا عمر تواجه عيناها في استنكار سافر !
وبيده بضعة اوراق مالية يبدو أنه يدفعهم لمُحصل الغاز الواقف أمامه، فتراجعت لداخل الشقة على الفور مغمضة العينين تحاول استيعاب أن تطفلها الخفي كُشف للتو وعليها التصرف وبسرعة..
وبالفعل نجدتها فكرة قفزت لعقلها، فتحركت مسرعة تحاول ملئ الكيس البلاستيكي اسود مُخصص للقمامة، بأي شيء، لتُخرجه وكأنها فتحت الباب لتضع القمامة في سلة المهملات الموضوعة أمام باب الشقة.
وحين كانت تدور في الشقة باحثة عن أي شيء تضعه بالكيس، وجدت عمر خلفها مباشرةً يمد يده بحبة طماطم قائلًا بسخرية مرحة افتقدتها نغمة صوته مؤخرًا:
-الطمطماية دي تقريبًا باظت ممكن تحطيها معاهم.
تجمدت مكانها للحظات ولم تدرِ لمَ هي مكشوفة وتصرفاتها شفافة بالنسبة له لهذه الدرجة، على عكسه هو تمامًا يحيط نفسه بزجاج أسود متين يمنعها من رؤية ومعرفة ما يدور بخلده؟!
استدارت متحلية بثبات ظاهري وهي تنهره:
-أنت بتتريق؟ على فكرة أنا بدور على الحاجات البايظة وبرميها فعلًا، النظافة من الإيمان.
إلتوت شفتاه بابتسامة تحلت بنفس التهكم:
-إيمان بتسلم عليكي وبتقولك بطلي كدب.
ثم عاد لنقطة أساس هذا الحوار، حين أضاف متسائلًا:
-وبعدين تعالي هنا، هو كل ما حد يخبط بتفتحي الاول ليه؟ بيوصلك اشعار الاول؟
هزت كتفاها معًا مجيبة ببراءة:
-دي صدفة.
ردد مستنكرًا بتعجب مصطنع:
-صدفة!
-اه، قضاء وقدر يعني، اعترض بقا.
أكدت متمسكة بالبراءة التي ترسم خطوطها العريضة على ملامحها في تلك اللحظات..
فهز عمر رأسه نافيًا وهو يضرب كفًا فوق كف:
-استغفر الله العظيم، هو دا اللي ناقص تخليني مُلحد.
تحولت نظراتها للدهشة المخلوطة بعتاب مرح:
-أنا يابني! طب بذمتك مين اللي بيخليك تستغفر وتفتكر ربنا كل شوية، مش أنا ؟
-الصراحة، في دي فعلًا عندك حق.
أشارت له بيديها في زهو:
-شوفت، ماتبقاش ناكر للجميل بقا.
غمغم باعتذار كاذب على مضض:
-معلش يا أخت نوسين، أنا ناكر للجميل للأسف ومضطرة تستحمليني شوية كمان بس.
-بمناسبة إني أستحملك وكدا، أنا همشي امتى؟ عملت إيه مع عمي؟ أنا هفضل مسجونة كدا كتير؟
إنفجرت بؤرة الاسئلة بوجهه دون مقدمات، فصاح فيها:
-إيه دا راديو! افصلي شوية، ومين اللي مسجونة دي؟!
ردت بهدوء دون تردد:
-أنا، أصل أنا مش متعودة على الحبسة دي، عايزه أنزل وأشتغل زي ما كنت.
استحالت لهجته للجدية الصلبة، ولم يُفصح لها عما يجول بخاطره؛ ألا وهو قراره بتجميع الأموال لعمها بشتى الطرق:
-لسه ماحليتش الموضوع مع عمك، استحملي شوية كمان.
-طيب امري لله، بس ياريت تنجز الله يباركلك.
عاد يسخر منها بتلقائية، وكأنها تفرض عليه السير في مدارها هي الساخر المرح:
-أي اوامر تانية يا نوسين هانم؟
هزت رأسها نافية بترفع متعمد:
-لا شكرًا لما يبقى فيه هقولك.
فهدر من بين أسنانه وهو يرفع يديه للأعلى كأنما يناجي الله:
-يا مصبر الوحش على الجحش.
ثم غادر لتقف نوسين متجمدة مكانها للحظات، وكأنها تحاول استيعاب اخر ما ردده، وهمست لنفسها مذهولة:
-أنا جحش!
****
مر يومين آخرين..
وعمر يحبس نفسه في مهجعه، لا تراه طوال اليومين السابقين، وكأنه يتعمد إصابة قلبها بقلق، وإن كان يتعمد ذلك فقد نجح وبجدارة، حتى أنها قررت بتهور معتاد أن تذهب له في تلك اللحظة..
والحجة؟ لا تعلم.
إندفعت بالفعل صوب باب شقته، وقبل أن تطرقه حاكت جيدًا خيوط حجتها التي ستتشكل في اجابتها على سؤاله المتوقع، ثم طرقت الباب، فتح لها عمر بعد قليل، ولا يبدو عليه التفاجؤ من تواجدها !
ترك الباب مفتوح وأشار لها بالدخول، ولكن ليس بترحاب سعيد كما توقعت، بل بهدوء فاتر:
-ادخلي يا نوسين.
دخلت بالفعل، وثارت ثائرتها بالغيظ الحقيقي منه، ففوق أنه لا يسأل عن احوالها ومن المفترض أنها ضيفة لديه، يعاملها بفتور بغيض ايضًا !
أعلنت ركائز حجتها حين سألته:
-إيه حليت الموضوع مع عمي ولا لسه؟
وقبل أن يجيبها تابعت وكأنها لا تنتظر اجابته من الأساس:
-ولو لسه ماحليتهوش فـ أنا هامشي لإن كدا كتير بجد، احنا اتفقنا على يومين تلاتة.
-لسه ماحليتهوش ومش هاتمشي في حتة يا نوسين، مش هنتناقش تاني في نفس الموضوع!
قال بصوت أجش، وقد كانت نوسين متربصة لتلك الاجابة وكادت تنطق، ولكن أوقفها رنين هاتفه الذي صدح باتصال، أجابه عمر بهدوء:
-ايوه يا عمتي، الحمدلله بخير.
استمع لِمَ تقول ثم اومأ برأسه وكأنها تراه:
-أيوه طبعًا فاضي اتفضلي.
ثم نهض متعمدًا من جوار نوسين، ليدخل غرفته، وكأنه يحتمي بها من عينيها التي تود نبش اسراره، راغبًا في توثيق اعتقادها عن خطبته!
أحست نوسين أنه تركها بتلذذ تعاني على جمر الغيرة الضاري الذي يحرقها حرقًا، فنهضت دون أن تقدر على السيطرة على قدميها التي تحركت دون اشراف من عقلها، ووقفت خلف باب غرفته الذي أغلقه عليه، تحاول التنصت والاستماع لِمَ يقوله..
وبعد دقيقة فشلت فيها في تحديد ماهية الحديث الدائر بالداخل، فُتح الباب بغتةً فكادت تسقط على عمر الذي تراجع مسرعًا ليتفادى سقوطها عليه، فأمسكت رأسها مسرعة وهي تجعل جسدها يترنح عمدًا مستطردة:
-إيه دا أنا دوخت فجأة، ضغطي عِلي ولا إيه، ما اصل اللي بيحصلي دا كتير اوي محدش يستحمله.
ثم قال بتهكم مرير:
-هو انتي ماتعرفيش إنك عيب تتصنتي على حد.
أشارت لنفسها وتكلمت بلهجة غلبت عليها الدهشة المصطنعة:
-أنا ؟ أنا بتصنت، دا أنا مش فضولية خالص، ولا بحب اتصنت على حد ابدًا.
-ابدًا.
تمتم خلفها ساخرًا، فتابعت هي بنبرة تحمل معنى مُبطن:
-أنت بس اللي مش طايقني ومستقصدني.
سألها في استهزاء:
-وهستقصدك ليه مابتاخديش عندي درس؟
أصرت على إصابة هدفها بمكر انثوي حين صوبت حروفها للمعنى المرغوب:
-الله اعلم، يمكن خطيبتك او عمتك قالولك ماتتعاملش مع نوسين.
صمتت لحظة لم تكن مهلة كافية لرد عمر، وأكملت:
-صحيح هي خطيبتك ماجاتش تاني ليه؟
أجابها بما أثار غيظها أكثر:
-طلعيها من دماغك عشان ترتاحي.
ولكنها كبحت غيظها ببراعة حين تشدقت بمرح:
-والله يا عمر أنا ما هرتاح إلا لما تسيبك منها انا بصراحة مش مرتاحالها.
عقد ذراعيه بابتسامة ساخرة وراح يُجاريها دون تفكير:
-يا سلام من اول مقابلة مش مرتاحهالها، يا ترى بقا مش عجباكي فـ إيه؟
-مش شبهك كدا مش لايقة عليك.
صاح بذهول:
-هي فردة جزمة دي انسانة!
بدلت دفة الحوار للسؤال حين أردفت:
-طب أنت إيه اللي عاجبك فيها؟
-جميلة هادية محترمة لسانها مش متبري منها.
رده جاء بباطنه اشارة متوارية ولكنها استشفتها بسهولة، فهزت رأسها بلامبالاة:
-صفات تقليدية مُملة، إنما الشقية اللي لسانها متبري منها دي نغشة كدا وتضيف بهجة على حياتك الكئيبة دي.
وكأنه اليوم عزم على قتل مشاعرها في مهدها، فقال بجفاف:
-الصفات دي مش عايزها نهائي ولا عمري هعوزها.
أحست أن كلماته لم تكن تشير نحو الصفات فقط، وإنما تشير لها هي.. تنقل لها رفضه النهائي لشخصها.
لذا هزت كتفيها بترفع متمتمة:
-براحتك.
كادت تسير مبتعدة عنه، ولكنه شعر أنهما في خضم لعبة سيدور كلاهما في مدارها دون توقف، فتستنزف مشاعرهما دون تتويج نهائي لتلك المشاعر.
لذا دون تفكير جذبها بقوة فجأة من ذراعيها نحوه، حتى شهقت وهي تصطدم بصدره الصلب في احتكاك أصاب كلاهما بتيار عاطفي مفاجئ زلزل أرجائهما، ولكن عمر كان الأسرع في التخلص من اثر ذلك التيار والعودة لتماسكه الجامد، حيث هدر فيها متسائلًا:
-أنتي عايزه إيه بالظبط؟
لم تتوقع ذاك السؤال، وأحست أن تلك الكلمات ما هي إلا مصيدة سيقبض بها على احاسيسها التي تفر من الوقوف على ارض الاعتراف، فكان جوابها متلعثم:
-مش عايزه حاجة.
-امال بتعملي كدا ليه؟ مترقبة لأي حد يجيلي ليه، بتتدخلي في حياتي اوي ليه؟ مهتمة أنا خاطب هند فعلًا ولا لأ لييييه؟
صرخ بأخر كلماته مُصرًا على إنتشال ما تطويه في طي الكتمان، وحاولت هي التماسك حين غمغمت بحروف مشتتة:
-أنا آآ….
فصاح فيها من جديد بانفعال:
-أنتي إيه؟
-أنا بغير عليك.
صرخت بها ولم تصدق أن لسانها فعلها وأفرج عن الاعتراف المحبوس بين ثناياه، ولكنه ربما بسبب شعور أنها مُحاطة بالنيران من الجهتين؛ نيران استمرار التلاعب والتهرب من الاعتراف، ونيران مواجهته بذلك الاعتراف، فإما يقتل عناده، او يقتلها هي!
تراجع عمر خطوتان بعيدًا عنها وكأنه يُخرج نفسه من هالة تأثير ذلك الاعتراف، التي سيطرت عليه لجزء من الثانية.
ثم كان حكمه القاسي بموتها حين صدح صوته الذي أحسته أغلظ من سوط ناري:
-وغيرتك دي ومشاعرك مرفوضة، مش قابلها ولا عمري هقبلها.
****
رحمه سيد