( نوسين )
الفصل العاشر ” الأخير ” :
رغم أن الكلمة جعلت الأنثى داخلها تنتشي، وقلبها يصرخ أنه أخيرًا سينل مكافأته على تحمل كافة فصول الحب؛ فصل القسوة، والتجاهل، والرفض، اخيرًا وصل لربيعه؛ الربيع الذي سيزهر فيه ويتنشق رحيق العاطفة متلذذًا بها.
ولكنها كانت أقوى من أن ترضخ بهذه السرعة لمطالب قلبها الخانع، إذ قالت بإباء وكمد:
-دا لما تشوف حلمة ودنك.
إتسعت عينا عمر وقد فاقت توقعاته برد فعلها، خاصةً حين إستدارت لتغادر بكل هدوء وكأنها لم تضرب بطلبه الحالم عرض الحائط للتو!
فصرخ والغيظ يعتصر حروفه:
-هتتجوزيني برضو في الأخر يا برقوقة.
كانت تعطيه ظهرها فلم يرَ الابتسامة التي غزت عبوس وجهها الزائف والمكر الأنثوي يتخذ مكانه في بُندقيتيها؛ ستلقنه درسًا لن ينساه على رفضه المتعجرف الأحمق وتجعله يندم عليه طيلة حياته.
****
بعد يومين…
كانت “نوسين” طيلة اليومين ما أن يأتي عمر للورشة أو لمنزلها تتظاهر بإنقلاب ملامحها للضيق والنفور، منافية دقات قلبها التي تلحن لحن ترحيبي حار بمالكها.
وفي هذا اليوم، قررت أن تتحامل على نفسها وتعمل ولو لذراع واحدة؛ حتى تسدد قسطها لعمر في أقصر وقت رغم أنها تعلم صعوبة ذلك.
دخلت الورشة تلقي التحية على حسن الذي كان وجهه محتقن بضحكة مكتومة:
-صباح الخير يا حسن.
رد بتحية مماثلة:
-صباح الفل يا نونا.
ضيقت عينيها وسألته بشكٍ:
-مالك كاتم ضحكتك ليه؟
أردف يتهرب مسرعًا وقد بدأ يُحرك أقدامه للمغادرة:
-لا مفيش أنا افتكرت حاجة بتضحك بس، هروح أشتري باتيه أكله عشان مافطرتش وجاي.
اومأت رأسها على مضض والتعجب يُلامس قسماتها ولكنها تجاهلته، ثم تحركت صوب العربية التي من المفترض أن تبدأ بتصليحها.
جلست على الكرسي جوار السيارة، واقتربت منها قليلًا، وفجأة في حركة غير متوقعة كان “عمر” يخرج من أسفل السيارة مُدحرجًا على سنادة توضع أسفل السيارة أثناء تصلحيها، فشهقت نوسين بفزع:
-سلام قولًا من رب رحيم، بيطلعوا منين دول!
تلاعب بحاجبيه وهو يناغشها:
-مساء الأناناس على اللي تاعبة كل الناس.
-والله ما حد تاعبني إلا أنت.
ضربت على فخذيها وهي ترد في نفاذ صبر، فالتجأت حروفه للمسكنة:
-أنا برضو! دا أنا غلبان.
لوت شفتاها مُعلقة باستخفاف:
-أنت وغلبان مينفعش تجتمعوا في جملة واحدة ابدًا.
قرر تغيير اتجاه تيار الحديث بجدية واهية:
-على فكرة يا برقوقة أنتي مفتقدة أهم قيمة من القيم الإنسانية.
-يا راجل؟
تمتمت بتعجب كاذب، فأكد متقمصًا دوره الدرامي الذي يُقدمه له الحوار بينهما لأول مرة:
-اه والله، التسامح دا قيمة مهمة جدًا لازم تكون فيكي.
صاحت فيه بتبرم:
-أطلع هنا وكلمني، وبعدين جو الإذاعة المدرسية دا أنا بكرهه.
خرج بالفعل من اسفل تلك السيارة، وأكد دون تردد بعبث:
-وأنا كمان.
عقدت ما بين حاجبيها دون فهم:
-وأنت كمان إيه!
كرر وكأنه صار لا يفقه سوى الوقوف جوارها في صف واحد، في أي شيء وكل شيء:
-بكرهه، بس لو أنتي هتحبيه يبقى بحبه.
-اطلع برا يا عمر.
أردفت بفظاظة مُنهية ذلك الحوار الذي صار يتلصص على دواخلها مداعبًا إياها خفيةً متعمدًا تليين حائط الصد الذي يحاوطها، ولكن عمر لم يستسلم بل واصل بنبرة صبيانية:
-هو أنتي مش حافظة غير الجملة دي؟ طب غيريها.
قالت بسماجة:
-Go.
ادعى عدم الفهم والبلاهه فانحنى امامهما المكر ليخفياه:
-مش فاهم، معلش أصل ثقافتي فرنساوي.
جمجت بغل بدأت وتيرته تتصاعد داخلها:
-اذهب للجحيم.
توسعت حدقتاه ونسجت الصدمة شبكتها فيهما، ثم أضاف بشجن زائف يخالطه العبث المُحبب:
-للجحيم، وجالك قلب تقوليها، بس لو معاكي يا برقوقة قلبي هروح عادي.
ضربت كف فوق كفٍ وهي تنهره متهكمة:
-هو أنا بقولك هنروح دريم بارك، دا الجحيم يابني!
هز رأسه موافقًا:
-معاكي حق آآ…
ولكنها قاطعته بحزم لطالما كان وسيلته هو للدفاع ضد هجوم شقاوتها العاتي المستمر:
-هو أنت لسه هتناقشني، أمشي.
اقترب منها قليلًا، يسألها بعبث ماكر:
-أمشي يعني؟
أكدت وهي تتراجع خطوتين مثليهما:
-اه امشي.
-طب فكري تاني.
بدأ التوتر المرتبط باقترابه منها، يغوص وسط أعماقها مسببًا اضطراب بدأ ينضح على سطح حروفها:
-فكرت امشي.
عاد ليسألها بنفس اللهجة الماكرة الشقية:
-ولو مش عايز أمشي؟
فحذرته بقوة مغشوشة:
-ابعد بدل ما اصوت وألم عليك الدنيا.
ولكن تحذيرها عاد لها معكوسًا في صورة اقترابه الذي ازداد وهو يتابع بابتسامة خبيثة:
-صوتي، ارجوكي صوتي ولميهم عشان أصلح غلطتي.
تمتمت متأففة علها تؤنب ضميره:
-أول مرة اعرف إنك استغلالي كدا.
أكد بتبجح عابث أصابها بتعجب:
-لا أنا في الحتة دي استغلالي جدًا استغلالي أوي استغلالي خالص.
قررت إقتطاف جزء من المكر الذي يختزله كله داخل عقله؛ لتهرب من بين براثنه، فنظرت خلفه صوب اللاشيء وغمغمت بدهشة وخوف مصطنعين:
-إيه دا مين دا يالهوي!
نظر عمر خلفه بتلقائية، فركضت نوسين مسرعة لخارج الورشة، هاتفة بانتصار:
-وريني هتقرب مني تاني ازاي يا متحرش.
إنطلقت ضحكات عمر على شقاوتها التي لا تقدر على كتمها حتى وهي تتظاهر بتبلد كل خلية احساس داخلها، تبقى الشقاوة داخلها فرع لا يخضع لعقلها العنيد.
****
بعد يومين…
وقف عمر أمام باب منزلها، مقررًا بدء محاولة جديدة لاختراق صلابة الجدار الذي تعزل نفسها خلفه، تنحنح ثم طرق الباب بهدوء، ففتحت نوسين وما أن رأته حتى سارعت بوضع قناع الجمود على ملامحها لتخفي شوقًا تسلل لحدود جمودها الواهي مهددًا إياه..
هتف عمر بابتسامة رائقة ماكرة:
-أنا سمعت إن في حاجة بايظة هنا.
فرفعت احدى حاجبيها بدهشة مصطنعة:
-ايه دا أنت سبيت المحاماة واشتغلت صنايعي؟!
أكد بلامبالاة مغموسة بعبث صار من القوام الأساسي لكلماته مؤخرًا:
-وماله! المحاماة دي مبتأكلش عيش، لكن الصنايعي بيأكل عيش وشهد ولوز وخصوصًا لو واحدة قمر زيك.
اشتدت نظرتها وغاصت نبرتها في تهديد مُبطن لم يُحرك شعرة منه:
-ممكن أعتبرها تحرش وأصوت وألم الناس عليك، والمرادي بقا تبقى كارثة على دماغك بجد.
-شوفتي اهو انتي اللي بتتلككي، ما بتصدقي أجي جنبك بس.
أطلقت تنهيدة قوية تعبر عن نفاذ صبرها الكاذب:
-يا سيدي متستغنيين عن خدماتك العظيمة.
ثم أغلقت الباب في وجهه، وداخلها متيقن أنه لن يغادر بهذه السهولة، وبالفعل اختلطت ظنها اليقين بنثرات الواقع حين سمعته يطرق الباب من جديد، وما أن فتحته حتى قال بمشاكسة:
-أنا سمعت إن في واحدة هنا بتتخانق مع دبان وشها وواقعة في مشاكل، أنا محامي وممكن احل لها مشاكلها.
ابتسمت بسماجة وحروفها تغرق في بحر التعجب الوهمي:
-إيه دا لحقت ترجع للمحاماة بسرعة كدا.
ليتابع ممازحًا إياها:
-الثبات على المبدأ عندي صفر وخصوصًا لو قدام واحدة قمر زيك يا برقوقة قلبي.
تأففت وقد استحالت نغمة صوتها لعتاب ناشز:
-تاني بتعاكسني مابتحرمش.
إنطلقت أهكومة جديدة من بين قبضة شفتيه:
-يعني هو انتي اللي كنتي لميتي الناس عليا.
كررت نفس جملتها السابقة بفظاظة مقصودة:
-طيب يا سيدي وفر خدماتك العظيمة لحد تاني سلام.
ثم أغلقت الباب مرة اخرى، وبعد دقيقة واحدة كان يطرق الباب من جديد، مصمم على إخراجها عن طور الصلادة ذاك:
-أنا سمعت إن في واحدة قلبها واجعها هنا وأنا أخدت دكتوراة في علم النفس وأعرف أساعدها.
-قلبي حديد وزي الفل.
قالتها بجلافة، لم تثنيه عن المواصلة بلهجة صبيانية:
-طب مايمشيش معاكي قلبي اللي واجعني، ومحتاج مساعدة.
تشدقت بحروف قاتمة تقبع أسفلها ضحكات تهز قتامتها منذرة بالإنفجار:
-دور على حد يساعدك غيري، ولو رجعت تخبط تاني هطلبلك البوليس.
لم يخضع لتهديدها المغشوش الذي يعلم أن الأواصر بينه وبين حيز التنفيذ معدومة، لذا طرق على الباب من جديد بإصرار بعد أن أغلقته، وما أن فتحت حتى استرسل:
-مساء الخير سمعت إن هنا بيسجنوا اللي قلبه واجعه ينفع أتسجن هنا وترحموني من العذاب اللي أنا فيه.
كادت تصرخ فيه بانفعال ولكنها تمالكت زمام صوتها بصعوبة:
-والله أنا اللي نفسي ترحمني من العذاب دا.
أكمل مناغشتها غامزًا إياها بقلب لا يعرف اليأس لملاقاة صاحبه المعزول بعيدًا رغمًا عنه:
-طب ما تيجي نتسجن مع بعض، في عش الزوجية.
ولكنها اعترضت بجفاء وهي تستطرد بنبرة ذات مغزى:
-لا أخرتي مش هتبقى مع حد قلبه حجر.
-أحنا نجيب حد يحكم بينا ويشوف مين اللي قلبه حجر ومابيسامحش، ولا نحل مشاكلنا بطريقة ودية مع بعض؟
أنكرت ببرود ثلجي:
-مفيش ود ما بينا.
سألها بلمعة درامية حزينة:
-طب والعشرة؟
أجابت بثبات ملتزمة بالوقوف على حد البرود القارص الذي أذاقها إياه سابقًا:
-موتها.
-والاعجاب؟
-دفنته.
-والعيون الزرقا؟
-كرهتها.
أشار لها برأسه معلنًا انتصاره في مناظرة سريعة أثبت بها بمهارة في أي قلب تسكن القسوة:
-شوفتي بقا مين اللي قلبه قاسي.
-أنا.
رددتها بسماجة قبل أن تغلق الباب في حركة لم تباغت عمر الذي تنهد تنهيدة قوية تحمل شيء من اليأس، قبل أن يغادر على مضض.
****
اليوم التالي…
وصل “عمر” للمنطقة التي تقطن بها خالة نوسين “ثريا” التي أصر على زيارتها ليطلب مساعدتها في تليين “نوسين” تلك التي تمتلك قلب من صوان..
طرق على باب منزلها، وبعد دقيقتين تقريبًا فتحت له، وما أن رأته حتى ابتسمت مُرحبة:
-اهلًا اهلًا.
إتسعت عينا عمر ذهولًا وبرقت بالسعادة وهو يسألها بغير تصديق:
-أنتي فكراني؟
أكدت بزهو:
-أيوه طبعًا فكراك، أنت عمر جوز برقوقة.
-يا بركة دعاكي يامه.
هلل عمر بها وهو يدلف وقد إنتعش صدره بالأمل والفرحة، واخذ ذلك كعلامة على طريق يبدو أنه مُمهد له.
جلسا سويًا في الصالون، وبعد إلقاء التحية وما إلى ذلك، سألته ثريا بقليلٍ من الضيق:
-امال فين برقوقة ماجتش معاك ليه؟
تنهد عمر ثم انجلت رياح الحزن والإرهاق بصوته وهو يخبرها:
-ما هو أنا جايلك عشان برقوقة، برقوقة غلبتني معاها.
-ليه عملت إيه؟ قولي وأنا أقرصلك ودانها.
همهمت بتركيز وهي تنظر له، فبدأ يقص عليها كل شيء من البداية منذ أن رأى نوسين، حتى تلك اللحظة التي يجلسان بها، دون أي تزييف للحقائق او اضافات ليست لها وجود كزواجهم.
حَلَّق التبرم في سماء ملامحها التي إنكمشت وهي تسأله:
-يعني انتوا كذبتوا عليا؟
هز كتفاه في قلة حيلة وتفوه:
-غصب عننا، لو كنا قولنالك الحقيقة ماكنتيش هترضي واحتمال ماتتقتنعيش لإنك مشوفتيش بعينك ومتعرفيش جدية الوضع.
عادت تسأله من جديد بذات اللهجة:
-وأنت بقا جاي تحكيلي دلوقتي ليه؟
-عشان تساعديني، يمكن يكون ليكي تأثير عليها أكتر مني، أنا مش عايز أخسرها، وعايز أتجوزها بجد.
سرد لها مُراده الذي أرق مضجعه وسلب التركيز من عقله في أي شيء سواه.
فوازنت “ثريا” الكلمات بعقلها، قبل أن تعلنها لتريح قلب الجالس جوارها متلهف لردها الذي سيُبني فوقه حياة قادمة:
-ماشي، رغم إنكم قللات الأدب وكذبتوا عليا، بس هي لازم يتقرص ودانها فعلًا، ويتعملكم أحلى فرح.
صفق عمر بحماس:
-ايوه كدا يا رورو يا قمر.
****
بعد فترة…
وصل كلاً من “ثريا” مع “عمر” للبناية التي تسكن بها مُعذبة قلبه “نوسين”، فأوقفته ثريا بابتسامة خفيفة قائلة بشيء من الحكمة:
-كفاية لحد كدا، هطلع أنا بقا وأتكلم معاها، وبعدين أكلمك تيجي أنت وأي حد من أهلك.
بادلها ابتسامة مماثلة راضية، وأكد مؤيدًا:
-حاضر، أنا أهم حاجة بالنسبالي إنك تحلي الموضوع دا وتفهميها.
اومأت ثريا برأسها:
-إن شاء الله خير يا حبيبي.
وبالفعل غادر عمر وصعدت ثريا صوب شقة “نوسين” التي كانت تتجهز للمغادرة للورشة لتباشر عملها، فتحت الباب بعد أن طرقته ثريا، وتراقصت الفرحة بعدستيها وهي ترتمي بين أحضانها مرددة بود حقيقي:
-خالتي ثريا، وحشتيني، جيتي امتى وجيتي لوحدك ازاي؟؟
بادلتها ثريا العناق تغدقها بحنان وحب لا تدري كم افتقدتهما نوسين في الأيام السابقة حين كانت وكأنها وحيدة في صحراء قاحلة، وباغتها ذلك الذئب البشري المسمى “عمها” بالهجوم غارزًا أنيابه الطامعة فيها دون أن يأبه بجرح اليُتم الذي لم ينضب داخلها بعد.
بعدما جلستا سويًا، قطعت ثريا الصمت الذي عم أرجاء المنزل، بلهجة تحمل مغزى معين:
-أنا جيت مع عمر.
استوقف الأسم نوسين التي تجمدت لوهله، فهي لم تتوقعه ابدًا، ولكن ثريا لم تمهلها الفرصة الكافية لاستدراك المفاجأة، بل أضافت بعتاب عَلت أبواقه بنغمة صوتها لتزيد من وقع تلك المفاجأة عليها:
-ايوه عمر المحامي اللي إتفقتوا إنكم تقولولي متجوزين بالكذب.
فسارعت بلهفة تحاول تعديل الوضع لصالحها حتى تتفادى خسارة خالتها هي الاخرى:
-والله العظيم كان غصب عني يا خالتي، ماكنش قدامي غير كدا، يا نكذب عليكي يا نروح هدر قدام الناس دي، لإني لو كنت قولتلك مكنتيش هترضي، لأن مفيش حد عاقل هيعمل كدا.
-امال أنتي عملتي كدا ليه؟ عشان أنتي مش عاقلة صح؟
أنزلت نوسين رأسها أرضًا وهي تومئ على مضض بصوت مكتوم:
-أيوه، المهم انتي متزعليش مني.
-أنا مش زعلانة منك، أنا كل اللي يهمني هو مصلحتك اللي أنتي مش بتعملي حسابها في أي حاجة.
أردفت ثريا وهي تربت على يد نوسين بحنو، فأكدت نوسين بابتسامة تشع حبًا:
-أنا عارفة والله، ربنا يخليكي ليا يا حبيبة قلبي.
ولكن ثريا أبعدت يدها في اللحظة التالية، واستدعت بيادق العبوس الزائفة لتترأس قمم وجهها، وتشدقت:
-بس دا مش معناه إني سامحتك، لازم تعملي مجهود عشان أسامحك.
سألتها مسرعة:
-اعمل إيه قوليلي؟ من إيدك دي لإيدك دي.
أصبحت المفاجأة مكتملة الأركان حين وضعت ثريا أخر ضلع فيها بقولها:
-تبطلي تعذبي الواد الغلبان اللي أسمه عمر، واضح جدًا إنه شاريكي، فـ ماتخسريهوش بهبلك وتفكري إن دي نصاحة.
-هو حكالك؟
عادت تستفسر باندهاش حقيقي هذه المرة، فالتحمت حروف ثريا بالاستخفاف:
-أكيد يعني ماقطعش كل المسافة دي عشان يسلم عليا ويمشي، أكيد حكالي كل حاجة طبعًا.
تنهدت نوسين وبدأت تعدد لها ما أوجعها وجعل قلبها متخشبًا صلدًا مهما غرز به محاولات او مبررات لا يتأثر سوى قليلًا جدًا:
-يا خالتي أنا أكيد مش هاوية إني أعذبه وأعذب نفسي، كل الفكرة إني بقيت حاسه إني رخصت نفسي قدامه، خصوصًا لما اعترفتله بمشاعري وهو رفضها بكل قسوة، أنا خايفة من القسوة دي، خايفة حتى لو رضيت دلوقتي، هيبقى حاسس دايمًا وفاكر إن أنا اللي جيت له، وإنه ماتعبش عشاني، واللي بيجي بسهولة بيروح بسهولة.
أيدتها الاخرى بهدوء وخبرة اكتسبتها مع سنوات عمرها التي تخطت الستون عامًا:
-معاكي حق، وجدعة إنك عززتي نفسك ومشاعرك بعدين وخلتيه هو اللي يلف حوالين نفسه عشان يكسبك تاني، بس كل حاجة لما بتزيد عن حدها بتتقلب ضدها.
رمقتها نوسين بنظراتٍ متوجسة وقلب عَلت نبضته بالقلق من ذلك الإخطار الذي كان بعيدًا نوعًا ما عن محيط ظنه:
-بس دا أبسط حقوقي يا خالتي، إني أخد فترة زعلي لإن هو اللي بدأ اللعبة المعفنة دي.
-هو بدأ وأنتي أخدتي رد فعل، خلاص بقا ماتبالغيش فيه، لإني حسيت إنه بجد خلاص جاب أخره واليأس قرب يسيطر عليه.
-أنتي شايفة كدا يعني ؟
سألتها بقليلٍ من التردد، فأزاحته ثريا عن عقلها بحسم حين تابعت:
-أيوه طبعًا، ولو عملتي غير كدا هتخسري حد ابن حلال وهتندمي، دا غير إنك بتحبيه يعني.
اومأت نوسين برأسها وشردت في الضوضاء التي أخذت تعج داخلها؛ وقلبها يتولى مهمة زخم عقلها بحديث خالتها المنطقي لتنطفئ شعلة تمرده.
في تلك الاثناء سمعوا صوت طرقات على الباب، نهضت ثريا لتفتح الباب، فوجدت امامها عمر الذي سارع بالقول ما أن لمح الدهشة التي عَلت وجهها:
-اسف ماقدرتش والله.
ضحكت رغمًا عنها، تُقدر حبه وقلقه اللذان يدفعاه نحوها دون تفكير او تريث، وقبل أن تنطق كانت نوسين تأتي من خلفها مستفسرة عن هوية الطارق، ولكن احتجز حلقها السؤال حين رأت “عمر” أمامها..
الذي لم ينتظر ايضًا، وقال بابتسامة مشاغبة:
-مساء التوت يا حلو يا كيوت.
ولم يمهلها ولو ثانية للرد بل اندفع نحوها يسألها بعينين شغوفتين متلهفتين:
-خلاص صافي يا لبن؟
زفرت متعمدة وأبعدت ناظريها عنه وكأنها تفكر، ثم هزت رأسها على مضض تتمنع رغم قلبها الذي ينتفض فرحًا وحماسًا كصاحبه:
-حليب يا قشطه.
صفق عمر بيديه ضاحكًا في وله:
-حلاوتك يا قشطه.
ثم وزع أنظاره بينهما متسائلًا بصوت لم تقل حماسته بل ازدادت اضعاف:
-هنكتب الكتاب بعد أسبوعين؟
استوقفته نوسين مستنكرة بشدة:
-إيه! أسبوعين إيه هو سلق بيض، في حاجة أسمها خطوبة، ولا دي ماعدتش على قاموسك؟!
اصطنع البلاهه والجهل مضيقًا عيناه بمرح:
-خطوبة يعني إيه خطوبة!
وقبل أن تضيف نوسين المزيد من الاعتراضات كان يُلجمها بقوله الذي اتخذ من المنطق درعًا له ليقبع في حيز التنفيذ:
-وبعدين الخطوبة دي للناس اللي مايعرفوش بعض يا برقوقة قلبي، لكن أحنا كنا واكلين شاربين قاعدين مع بعض وعرفت كل تاريخك الأسود يا برقوقة.
استرسلت بتعنت:
-قولت لأ يعني لأ!
****
بعد أسبوعين…
ولأن “برقوقة” تحمل من الثبات على الموقف ما يؤهلها لـ…. لا شيء!
تم عقد القران بالفعل بعد أسبوعين، فـ عمر لم يكن يملك من الصبر ما يجعله يؤجل ما يراه قد تأخر كثيرًا..
كانت “نوسين” ترتدي فستان ذو أكمام نصفه أبيض، ونصفه الآخر مشغول بزهور رقيقة ملونة أعطته طابع الرقة، وزينت ملامحها القمحية بمساحيق تجميل بسيطة جعلت جمالها يتوهج، او ربما السعادة التي ينطق بها كل شبر منها هي مَن تجعلها تتوهج وليس تلك المساحيق!
بينما عمر يشعر أنه أخيرًا أمتلك جوهر الحياة بين يديه، وأخذ منها ما يتمناه، السعادة أخيرًا وجدت مستوطن لها بين ضلوعه بعد أن أشرقت شمس الأيام المبهجة، وإنجلت ظلمة الماضي التي إستقرت بها طويلًا، وصار لا يريد أي شيء اخر سوى أن يبعد بها عن نقمة الزوال، فلا يعود مرة اخرى لعقدة الفقدان التي لا زالت معقودة في منتصف قلبه.
كان المدعويين الذين لم يكونوا كثيرين، قد غادروا ولم يتبقَ سوى أقرب الأقربين وهم ثريا خالة نوسين وسلمى عمة عمر وابنائها..
فقطعت ثريا الثرثرة الجانبية بين بعض المتواجدين، قائلة بابتسامة تنضح حلاوة:
-قومي يا نوسين هاتي الرز بلبن اللي عملناه.
-حاضر يا خالتي.
رددتها نوسين بطاعة ونهضت بالفعل لتحضره..
بينما عمر كلمة ” الرز باللبن” كانت بمثابة إشعار لعاطفة قديمة زجها لأعمق نقطة داخله ليكتمها، والان طفت على سطح جوارحه فأنعشتها بتواجدها الساطع..
تنحنح وهو ينهض ليذهب للمطبخ خلف نوسين، مختلقًا حجة من العدم بابتسامة هادئة تخفي خلفها الكثير:
-هقوم أساعدها احسن أنتي عارفاها لبخة.
هزت ثريا رأسها موافقة وهي تضحك، فتوجه عمر بالفعل للمطبخ، وجد نوسين تضعه على “الصينية”، فالتفتت نحو عمر الذي شعرت بوجوده، ليغمزها بطرف عينيه متمتمًا بتساؤل يحمل نزعة من الشك:
-أنتي إيه حكايتك مع الرز بلبن؟
عقدت ما بين حاجبيها بعدم فهم:
-حكاية إيه مش فاهمة؟
راح يخبرها وذاكرته لم تبخل عليه بذكرى ذلك اليوم بكل صراعاتها ومشاعرها المهيبة:
-يعني رز بلبن في الحلم ورز بلبن في الواقع، حتى كتب الكتاب فيه رز بلبن!
استفسرت والفضول يقطر قطراته فوق حروفها:
-حلم إيه؟
خرج سؤاله ماكر مغموس بالعبث:
-عايزه تعرفي يعني؟
أكدت باستغراب:
-ايوه.
هز رأسه موافقًا، والعبث يبرق بأمواج عينيه المهتاجة أكثر:
-طب تمام خليكي فاكرة إني سألتك الأول.
وقبل أن تعلن تعجبها من جملته الأخيرة، كانت شفتاه تحكي لشفتيها ذلك الحلم، بكل الشغف واللهفة والعشق المُعتق الذي تخزن داخله وآن الآوان ليتفجر ناثرًا بريقه المُزلزل في نفس كليهما…
فهتفت نفسه المتخمة بالعاطفة… نوسين؛ مَن جسدت المستقبل المنير على أرض هجرتها كل معالم الحياة، يا مستقبلي المضيء ونوري بعد العتمة؛ بين أحضانك يتناثر جوى روحي.
****
تمت بحمد الله.
رحمه سيد
رواية زواج لم يكن في الحسبان الفصل 10