رواية وبقي منها حطام أنثى للكاتبة منال سالم و ياسمين عادل الفصل الرابع والعشرون
عودة بالوقت للسابق
وقفا سويا كلا منهما في النافذة الخاصة به، يطالعان من مكانهما ذلك السحر الفطري، حيث أثارها مشهد الغروب فطلبت منه الصمت حتى يتمكنا من متابعته سوياً، كانت بسمتها تشكل فارقاً في يومه، فرفع رأسه يتأملها بنظرات عاشقٍ هلكه عشقه..
فشعرت بعينيه معلقتان بها..
أسبلت عيناها لتلتقى بعينيه ثم ابتسمت بإستحياء وهي تقول:
مش قولنا هنشوف الغروب سوا؟
رد مالك بنبرة صادقة ونظرات مأسورة:.
انتي عندي احلى من اجمل منظر غروب
ابتسمت وتوردت وجنتيها خجلاً منه فظهرت غمازتيها لتبدو أكثر جمالاً وأشراقاً..
فتابع هو بسمته العاشقة ببيت شعري كتبه لها وردده على مسامعها:
أستحت…
فصار للخجل لوناً بأسمها..
فياليت كل الحياء گحياء ِ حبيبتي..
وبذور القرنفل تعلو ثغرها.
عادت لأرض الواقع المجحف الذي هي فيه الآن، ولكنها على الأقل رسمت بسمة على محياها على إأثر ذكراه الذي لم ينصرف أو يُزال من ذهنها قط
، أغلقت النافذة ثم عادت لفراشها مدعية الرغبة في النوم لعلها تهرب من كم الذكريات الذي يطاردها ليوقظ شعلة حبها وشوقها من جديد.
كان هذا الصباح مختلفاً لها، فبالرغم من إشراقه إلا إنها كانت حزينة لفراق أحداً عزيزاً عليها، مصطفى ذلك الطفل الصغير الذي اعتادت على مجالسته يومياً عقب ذهاب والديه للعمل..
واليوم ستقوم الطائرة بالإقلاع وهي تحمل هذه الأسرة لإحدى الدول الأوروبية في رحلة هجرة أبدية، وقررت هي توديع الصغير على طريقتها الخاصة..
قامت هي بتصميم ألبوم كامل من الصور الفوتوغرافية التي جمعتها به لتمثل له ذكرى عزيزة ذات يوم عندما يكبر، ويتذكرها، أثنت والدته السيدة رانيا على فعلتها الراقية وهي تقول بإمتنان:
كلك ذوق ياإيثار، مكنش في لزوم تتعبي نفسك
ردت عليها إيثار وهي تمسح بيدها رأس الصغير:
متقوليش كده يامدام رانيا، ربنا عالم مصطفي عزيز عليا قد اي
هتف مصطفي وهو يتعلق بذراعها: وانا بحبك اوي ياإيثار، ليه مش بتيجي معانا؟
انحنت قليلاً لتطبع قبلاتها الصغيرة على جبين الطفل ثم نطقت بنبرة دافئة معهودة منها:
معلش ياصاصا، مش هاينفع، بس اوعي تنسى إيثار أبدا
رد الصغير مصطفى ببراءة وهو يهز رأسه نافياً: مش هنسى، انا هخلي مامي تتصلي بيكي كل يوم كل يوم!
احتضنته بعمق حتى تخللت أنفاسه صدرها ثم اعتدلت في وقفتها وهي تضبط وضعية حقيبتها على كتفها، وابتسمت قائلة:
أستأذن انا بقى!
ردت عليها رانيا وهي تصافحها بحرارة:
مع الف سلامة ياإيثار.
تركت المنزل والحزن مخيماً عليها لفراق طفل أخر ولكنها قررت تناسي الأمر لإستكمال الطريق، فتلك هي مهنتها، مجالسة الصغار وغرس مباديء الألفة والود في نفوسهم الصغيرة..
زفرت أنفاسها وهي تستجمع شتات الأمل حتى تقابل طفلاً أخر في مسيرتها التربوية..
ذهبت إلى مقر المكتب التابعة له عقب أن طلبتها مديرة المكتب بصورة متعجلة، فما كان منها إلا تلبية النداء والذهاب على الفور لتتفاجيء بالمديرة تبلغها بجدية:.
دي أسرة أجنبية لسه واصلين مصر أول أمبارح، طفلتهم رضيعة عندها سنتين إلا شهر ولا حاجة، والد الطفلة جه بنفسه هنا وطلب مربية بمواصفات قياسية وانا ملقيتش عندي مربية أفضل منك، خصوصاً ان ليكي كاريزما خاصة مع الأطفال الصغيرين!
كانت مفاجأة بالنسبة إليها، فقد كانت ترغب ببضع أيام كأجازة لها لتجدد نشاطها، وتعتاد غياب الصغير مصطفى قبل استلام العمل لدى أسرة جديدة..
ولكن من الواضح ان تلك الفرصة لن تسنح لها، فبادرتها المديرة عقب استشعارها بما تخبئه داخل صدرها ولا تنطق به:
عارفة انك كنتي محتاجة اجازة خصوصا بعد ما سيبتي مصطفي لأنك كنتي متعلقة بيه، بس دي فرصة بالنسبالك والراجل اللي هتشتغلي عنده شكله جنتل خالص عشان كده اعتبرتها فرصة ليكي!
ابتسمت لها إيثار وهي تومئ رأسها إيجاباً، ثم ردت بتنهيدة شبه منهكة:
ماشي حضرتك، هروح أمتى؟
بحثت المديرة بإحدى الأوراق الصغيرة عن تلك الورقة المدون بها للعنوان والتفاصيل للوصول إلى المكان المنشود حتى وجدتها ومدت يدها بها وهي تقول:
ده العنوان والتليفونات لو معرفتيش توصلي، وعلى فكرة في الحسابات ظرف بأسمك فيه مبلغ مالي هدية من أسرة مصطفي لجهودك مع الولد، مدام رانيا بلغتني انك رفضتي تاخدي اي حاجة عشان كده فضلت تسيبهولك هنا!
بدى على وجهها الإمتنان والسعادة ليس للمبلغ المالي، ولكن لتقدير المحيطين حولها لها، فقد كانت في حاجة ماسة إلى هذا الدعم المعنوي، إلى تقدير ذاتها، ومدح عملها، وها هي قد ظفرت بها بعد مجهود مضني، وإخلاص متفاني..
هزت رأسها ثم نطقت برقة:
شكراً، عن أذنك.
تأنقت إيثار في ثيابها الجديدة ثم نظرت لحالها بإعجاب في المرآة، ثم ضبطت وضعية حجابها الأزرق الذي تماشى مع كنزتها الفيروزية وبنطالها الأبيض، وأكملت تنسيق ثوبها عن طريق وضع عقداً متعدد الألوان حول عنقها وأعلى حجابها، ثم انطلقت للخارج وتعجلت بخطواتها للذهاب إلى مكان العمل الجديد
، كان الطريق مزدحماً گعادته فأضطرت لإستجار سيارة للأجرة حتى تستطيع الوصول مبكراً…
كان المكان عبارة عن فيلا صغيرة في منطقة سكنية حديثة، يبدو على هيئتها الخارجية البساطة والرقي وعدم التكليف..
ظهر الإعجاب واضحاً على تعابير وجهها..
عبرت البوابة والتي كانت خالية من أي حراسة بخطوات ثابتة، ومنها سارت عبر الممر الحجري المزدان على جانبيه بالمزروعات الصغيرة والورود المتفتحة ذات الألوان المبهجة…
استنشقت عبير الأزهار وهي تبتسم متفائلة بالخير في هذا المكان منذ أن وطأت أعتابه بقدميها، طرقت الباب بتوتر قليل، وانتظرت أمامه وهي تحاول الحفاظ على هدوء ابتسامتها..
وما هي إلا لحظات حتى انفتح لها لتظهر الخادمة من وراءه وهي تحمل الطفلة الرضيعة..
استقبلتها إيثار بإبتسامة ودودة، ولاحظت – على مرأى العيان – فشل الخادمة في التعامل مع الصغيرة..
تساءلت الخادمة راوية بنفاذ صبر وهي ترمقها بنظرات سريعة خاطفة لكنها متأملة لهيئتها العامة:
خير حضرتك عايزة مين؟
ردت عليها إيثار برقةوهي تنظر للطفلة الباكية بشفقة: انا المربية الجديدة جاية عشان، آآ
تنفست راوية الصعداء وكأنها وجدت السبيل لنجاتها من بكاء الصغيرة:
هو انتي! اتفضلي اتفضلي
ولجت إيثار للداخل فتفاجئت بها تضع الرضيعة بين يديها وهي تقول بصوت خفيض يملئه اليأس:.
خدي اتعاملي معاها احسن انا من ساعة ما جيت امبارح مش عارفه اسكتها خالص!
تناولت إيثار الصغيرة بين ذراعيها بحنان أموي جلي، ومسحت على ظهرها برفق حتى تستكين، وتكف عن البكاء..
ثم تأملت ملامحها الجميلة بدقة..
كانت الصغيرة آية من إبداع الخالق، فهي تملك ملامح آسرة، بالإضافة إلى شعرها الأشقر وعيناها الزرقاوتين، وبجانبهم بياض بشرتها ونعومتها..
مسدت إيثار على رأسها بحنو فشعرت وكأنها قطعة منها، گأبنتها أو ماشابه ذلك، لا تعلم ماهية هذا الشعور ولكنها شعرت بالسعادة لوجود هذا الكائن الملائكي بين يديها وفي أحضانها..
توجهت للداخل بخطوات بطيئة وهي تهدهدها وممررة أصابعها على خدي الصغيرة وجبهتها..
استجابت الصغيرة لحركاتها المداعبة، وبدأت في السكون والنظر لها بأعين متفحصة دارسة..
وبحركة طفولية بريئة مدت أناملها الناعمة الصغيرة ولمست وجنتي إيثار.
خُلق بينهما الانسجام منذ المقابلة الأولى ومنذ تعارفهما الأول..
جلست إيثار على طرف المقعد ثم أسندتها على ذراعها وهي تداعبها بالذراع الأخرى، حتى أنها تناست البحث عن أصحاب المنزل والتعرف عليهم، فتلك الصغيرة أسرتها في عالمها الطفولي البريء، وأعادت الضحكة إليها..
وإذ بها فجأة تنتفض من مكانها، ووقع قلبها في موضع قدميها..
تصارعت أنفاسها وتسارعت داخلها مشاعر متناقضة عندما استمعت لهذا الصوت المألوف ولتلك النبرة التي تحفظها وتتردد على مسامعها كل يوم..
ارتجف قلبها بشدة، واضطرب عقلها، وتلاحقت الذكريات كأنها تيار جارف..
تساءلت بعدم تصديق هل ما سمعته هو الكذب أم أنها تتوهم!؟
جابت المكان بناظريها المتفحصتين الباحثتين لتجد صاحب الصوت ولكنها لم تجده، كان الصوت يقترب منها فتزداد نبضاتها تلاحقاً حتى رأته يهبط درجات السلم موليها ظهره وهو يتحدث بهاتفه بهدوء:
يبقى على معادنا بالليل الساعة 10، سلام
حضرت راوية بين يديه سريعاً، ثم نطقت وهي تشير أتجاه إيثار وتقول بإبتسامة:
المربية الجديدة جت يافندم، اهي؟
أومأ برأسه متفهماً، ثم التفت نحوها، ولكن تجمد الحديث على لسانه، وتحرك قلبه من مكانه مرة أخرى بعد سنوات قد دهس فيها قلبه أسفل نعليه..
رمش بعينيه عدة مرات ليستوعب أنها أمامه، وليست طيفاً..
فغر فمه غير مصدقٍ وجودها..
ثم عبس بوجهه فجأة، وتجمدت تعابيره، بل وقست نظراته وهو يقول بصوت يحمل الشراسة:
انتي!
لقد صدق حدسها، انه هو، ذاك الذي ظنت أنه حبيب قلبها وخليل فؤادها..
المنتظر الذي طالما انتظرته لسنوات عديدة آملة رؤيته لمرة واحدة..
وها هو حلمها يتحقق، هو الآن أمامها، ولكن يحمل وجهاً جديداً، بملامح مختلفة ويختبئ بجسده المشدود خلف حلته السوداء التي أعطت لمظهره هيبة ومهابة..
تغيرت نظراته الحانية، وبدى أكثر جدية، إن صح التعبير أكثر قسوة عما مضى..
لم تجد فيه الروح المرحة التي عاهدتها منه..
إنه شخص جديد كلياً..
تسارعت أنفاسها إلى حد ما، فجاهدت لضبطها أمامه..
لم تتخيل أن وجوده سيحدث كل هذا الخلل والإضطراب فيها..
أربكتها نبرته الشرسة، وابتلعت غصة مريرة وهي تنطق حروف اسمه على لسانها من جديد بهمس مرتجف:
مالك…!
صمت رهيب ساد في اﻷجواء بينهما لكن أعينهما كانت تنطق بالكثير…
قست تعابير وجه مالك، وبدت نظراته أكثر حدة وهو يحدجها بنظرات مطولة متعمداً التقليل من شأنها، فهي بالنسبة له تعد رمزاً للخيانة والغدر، من جرحته بضراوة في فؤاده، من دفعته للرحيل والتخلي عن أحبائه…
أما حال إيثار فكان لا يتختلف عنه، هو أهانها وظلمها في وقت كانت تعاني فيه بمفردها، كانت في أمس الحاجة إليه، و اختارت أن تضحي بحبها من أجل حمايته هو حتى وإن كان الثمن حريتها…
هي أرادت أن تحميه على طريقتها، لكن انقلبت الظروف ضدها..
ابتلعت ريقها بتوجس كبير، و لم تنس رغم كل شيء صدق حبها له..
تفاجئت به يجذب صغيرته منها عنوة ليضمها إلى صدره فصرخت الصغيرة برعب قليل قبل أن تبدأ في البكاء من إثر الخضة.
حاول هو تهدئتها ولكنه فشل بسبب حركاته العصبية..
صدمت إيثار من ردة فعله ومن تصرفه المباغت الذي أفزع الصغيرة، فهتفت بلا وعي مستنكرة فعلته:
انت خضيت البنت!
رمقها بنظرات نارية قبل أن يصيح بصوت قاتم:
انتي هتعرفيني أربي بنتي ازاي؟
فغرت شفتيها مذهولة وهي تمتم بصوت متقطع:
هاه، ب، بنتك!
ثم صاح فجأة بصوت جهوري أجفل جسدها، وأفزع الصغيرة أكثر:
راوية، راوية تعالي خدي البنت!
خطت الخادمة بخطوات سريعة نحوه وهي تردد بإمتثال:
حاضر يا مالك باشا
تناولت الصغيرة منه بحذر، وسارت بها مبتعدة وهي تحاول هدهدتها لتكف عن البكاء…
شعرت إيثار بالخوف من وجودها بمفردها مع مالك، فوجود تلك الصغيرة كان يشكل درعاً يقيها من انفعاله المباغت..
دنا منها خطوة، فتراجعت عفوياً للخلف متحاشية القرب منه..
نظر لها بإحتقار، ثم أردف قائلاً بجمود:.
ايوه دي بنتي، كنتي مفكرة هافضل زي ما أنا أبكي على فراقك وحبك الرخيص!
صدمت من كلماته اللاذعة، واضطربت دقات قلبها، وردت بصوت متذبذب:
انت، آآ
تابع قائلاً بشراسة وهو يتعمد تجريحها:
أنا يا مدام عشت حياتي وقابلت انسانة حبيتني بجد واتجوزنا وخلفت منها، مش واحدة زيك!
لم تقو على الرد عليه، بل حدقت فيه بصدمة حزينة.
شعور رهيب بالخذلان سيطر عليها، وتملك من مشاعرها المضطربة..
فمجرد تخيل امتلاك أخرى لقلب حبيبها ومشاركتها إياه لحياته بكل تفاصيلها أتعبها نوعاً ما، وعذب روحها..
فماذا عن انجابه منها من يحمل صفاته؟ يا إلهي إنه اكثر إيلاماً!
حزن موجع أرهق قلبها، ووخزات مؤلمة أتعبت روحها، لقد عاش حياته، استطاع ان ينهض من جديد، بينما ظلت هي تقاسي من ذكريات الماضي..
تابع متساءلاً بتهكم مهين ليخرجها من شرودها المؤقت:
وإزي جوزك المحترم؟
استشعرت من نبرته حجم البغض الذي يكنه له، وعجزت للحظات عن الرد عليه، أتخبره بأنها كانت ضحية خدعة كبيرة تحملت تبعاتها لوحدها؟!
ارتفع حاجبه للاعلى ليضيف بسخرية:
والبيه موافق انك تنزلي تشتغلي بيبي سيتر؟ ولا انتي جاية من وراه؟
لم تستطع الصمود أمام تجريحه العلني، فصرخت بشموخ وكبرياء وقد تشنجت تعابير وجهها:
ماسمحلكش!
ابتسم بتهكم ثم قال بنبرة مهينة:.
يبقى زي ما توقعت طلع نأبك معاه على فاشوش، ومش قادر يصرف عليكي زي ما كنتي مفكرة!
كانت كلماته كالسوط الذي يسلخ جلدها الملتهب، فلم تتحمله، وصرخت فيه بصوت منفعل:
انت متعرفش حاجة عني عشان تقول كده!
نظر لها شزراً، وتابع بإستخفاف:
مش محتاج اعرف، كفاية اني شايفك النهاردة قدامي عشان اخمن كل حاجة!
تسارعت دقات قلبها، وكورت قبضة يدها بعنف، واشتعلت عينيها بحمرة غاضبة للغاية..
تحرك خطوة أخرى نحوها، وأكمل بشراسة وقد قست نظراته:
واحدة طماعة بتجري ورا الفلوس وبتحبها اكتر من نفسها باعت الغالي بالرخيص، ومهمهاش تدوس على مين في طريقها وهي بتعمل كده، المهم توقع المغفل اللي هيدفع اكتر، بس الظاهر انه جيبه طلع فاضي، فراحت تدور على مصلحة جديدة!
أوجعتها عباراته العنيفة التي تتهمها بلا رحمة، فهبط قلبها في قدميها قهراً، هو كغيره حكم عليها دون أن يترك لها المجال لتدافع عن نفسها..
أصدر حكمه بإدانتها متأكداً بأنها الجانية بالفعل..
لم تتحمل أكثر من هذا الظلم، فاستجمعت شجاعتها، وصرخت فيه بصوت هادر وهي تشير بيدها وعينيها تنطقان شرراً مخيفاً:
اخرس، ولا كلمة زيادة!
أغضبه بشدة صراخها فيه، فصاح بها بصوت جهوري عنيف:
انتي ليكي عين تتكلمي ولا تفتحي بؤك وتزعقي!
ردت عليه بصوت مختنق ومتشنج وهي تكافح لمنع عبراتها من السقوط أمامه:
انت ملكش حق تحاسبني ولا تكلمني عن حياتي اللي فاتت!
أضاف بقسوة وهو يرمقها بنظراته المدينة:
حياتك اللي انا كنت جزء منها ورميتي وكأني ماسواش
هزت رأسها نافية وهي تصيح بإعتراض جلي:
محصلش..
تشنجت تعابير وجهه، وبرزت عروقه الغاضبة وهو يكمل بحرقة:
نسيتي حبي، ولعبتي عليا، ومهمكيش العذاب اللي كنت فيه بسببك! ماهناش عليكي تكسري قلبي، ده حبيتك بجد، كنت مستعد أعمل أي حاجة عشان تبقي معايا، لكن انتي طلعتي كدابة، منافقة!
انهمرت عبراتها كالشلال رغماً عنها أمام كلماته، فأغمضت عينيها بحسرة، فقد تجسد في مخيلتها تلك الذكريات الآليمة، وانتحبت بأنين ظاهر…
تأملها مالك بنظرات خاوية، وأردف قائلاً ببرود:
دموع التماسيح دي معدتش تخيل عليا، وش الملاك اللي حطاه خلاص سقط قصادي وقدرت اكشفه!
دفنت وجهها بين راحتي يدها، وانخرطت في بكاء مرير، وهمست بصعوبة:
كفاية، مش هاسمحلك
قهقه بتهكم قبل أن يصمت ليقول بعدها بإستهزاء:.
بجد؟ مش هاتسمحيلي، حقيقي مبهور بيكي!
أشفقت إيثار على حالها، كانت تظن أنها أقوى من أي صدمات، اعتقدت أنها بعد الذي تعرضت له ستصبح أقوى، وستواجه الحياة بشجاعة، لكنها كانت واهمة، فمع أول مواجهة محتدة مع حبيبها إنهارت أمامه..
لم يعبأ ببكائها، وراقبها بجمود قاسي..
لم يكن مالك على تلك الحالة من قبل، لكنه أجبر نفسه على القسوة مع أمثالها..
دس يده في جيب بنطاله القماشي، ورمقها بنظرات استخفاف، ثم هتف بنبرة متغطرسة:
انتي تعرفي انا بقيت ايه الوقتي ولا اقدر اعمل ايه فيكي؟
رفعت وجهها، وحدقت فيه بعينين حمراوتين من كثرة البكاء، وردت عليه بعدم اكتراث:
مش عاوزة اعرف حاجة عنك!
أشار لها بإصبعه متعمداً التقليل من شأنها وهو يقول بجفاء:
فكرك هاصدق الحركة الرخيصة دي؟ يعني عاوزة تقنعيني انك جاية ومش عارفة هتقابلي مين ولا تشتغلي عند مين؟!
أخذت أنفاساً متلاحقة لتوقف بكائها المتواصل، وردت عليه بإستياء:
انا كنت جاية هنا مفكرة اني هاشتغل عند ناس اجانب محترمين، اساعد بنتهم، بس مكونتش اعرف اني هلاقيك هنا!
ضحك بإصطناع وهو يقول بتهكم:
لسه زي ما انتي استاذة في الكدب والخداع!
صرخت معترضة وهي تمسح عبراتها بكفها:
انا مش كدابة!
ثم رفعت رأسها للأعلى في إباء، وأكملت بنبرة تحمل الكبرياء:.
بس ملحوئة انا هاعفيك وهاعفي نفسك من الحرج ده كله، انا منسحبة من قبل ما ابدأ حتى!
وما إن أنهت عبارتها حتى أولته ظهرها، وسارت بخطوات أقرب للركض نحو باب الفيلا، لكنه هدر بها بصوت آمر:
استني!
لم تلتف إليه بل تابعت حديثها بصوت جاد وهي تمنع نفسها من البكاء مرة خرى:
اعتذاري الرسمي هتلاقيه مبعوت لسيادتك من المكتب!
ثم استدارت برأسها نصف استدارة لترمقه بنظرات أخيرة ولكنها كانت غريبة..
التقت عيناه بعينيها المنكسرتين، ورأى بوضوح فيهما تلك النظرات..
نعم نظرات كانت تحمل اللوم والعتاب، وإن تعمقت فيهما رأيت القهر والخذلان..
استطاع أن يقرأهما، أن يبني تواصلاً محدوداً معها، لكنها قطعت تواصلهما البصري قائلة بصوت جاف:
وبالتوفيق مع حد احسن مني، عن اذنك يا، يا مالك بيه!
تركته وسارت بخطوات أقرب الى الركض وهي تاركة العنان لعبراتها للإنهمار مرة أخرى.
كانت تود الخروج من هذا المكان قبل أن يطبق على أنفاسها، فقد كانت تشعر بالإختناق، بعدم استطاعتها للتنفس..
لماذا دائما تجد من يقسو عليها؟
لماذا تتحمل هي كل اللوم والذنب بمفردها؟
لماذا يتعمدون تركها حطام كلما حاولت بناء نفسها؟
ولماذا هو تحديدا من يقسو عليها هكذا؟
تابعتها نظراته المشتعلة الغاضبة منها، ورغم هذا لا ينكر انها أوقظت فيه روح الغضب والانفعال…
مشاعر مضطربة تختلج صدره وتعصف بروحه التي ظن أنها وجدت سكناها أخيراً، فسقطت حصونه، واضطرب قلبه..
تجدد كل شيء في عقله وكأنه حدث باﻷمس
لحظات حبهما، لقاءاتهما المتكررة، رومانسياتهما العذبة، وخطبتهما البسيطة
ثم تلتها لحظات مظلمة تضمنت لحظة الفراق القاسية، ارتباطها بمحسن واكتشافه مصادفة لهذا، تخليها عنه، غربته الموحشة، فراق أخته وما تبقى من عائلته الغالية، رؤيتها تزف إلى غيره وما أصعبها من لحظات…
كل هذا زاد من تأجيج نيران قلبه…
عجزت الخادمة راوية عن الاعتناء بالصغيرة ( ريفان )، فعادت بها إلى رب عملها وهمست بخوف:
مالك باشا، ريفان مش عاوزة تسكت من ساعة ما خدتها من المربية الجديدة!
رمقها مالك بنظرات حادة، وعبس بشدة وهو يقول:
هاتيها!
ناولته إياها بحذر وهي تقول بهدوء:
اتفضل يا فندم.
أمسك مالك بإبنته الصغيرة، واحنى رأسه عليها ليقبلها بحنو متناقض مع حالته الهوجاء، ثم تلمس وجنتيها بأطراف أصابعه، وداعبها في عنقها لتضحك ببراءة، ثم همس لها بصوت رخيم:
ايه يا روفي، انتي مش عاوزة تسكتي عشان بابي؟
قبلها من جبينها، ومسح على رأسها برفق شديد، واختنق صوته إلى حد ما وهو يقول:
انتي الهدية الغالية اللي فضلت من مامي!