رواية وبقي منها حطام أنثى للكاتبة منال سالم و ياسمين عادل الفصل الرابع والثلاثون
(( وما ضرني غريب يجهلني
وإنما أوجعني قريباً يعرفني ))
لم تعد تطيق إخفاء مشاعرها المتألمة، بل الأحرى أنها لم تعد ترغب في الهروب والإختباء..
كفاها معاناة في صمت..
كفاها إرهاقاً لروحها المعذبة..
هي تحتاج لمن تشكو إليه، وتبوح له بما يجيش في صدرها، وتروي عما ينهش بقايا روحها، فمن ذاك الذي سيصغي إلى أوجاعها؟
إنزوت في غرفتها، واعتزلت كل شيء..
شعر هو بها، لقد تبدلت أحوالها في الأيام الأخيرة، وحل عليها الوجوم، واكتسى وجهها الرقيق بالحزن..
لقد عادت كما كانت منذ انفصالها، فما الذي جد..
لم يستطع الصمت تلك المرة، فهي أخته، وهو عاهد أبيه أن يكون سندها، أن يهون عنها آلامها، فلم يتردد، وولج إليها في غرفتها..
مسحت عبراتها حينما رأته يقف أمامها، وابتسمت بسخرية..
جلس إلى جوارها على طرف الفراش، ونظر لها بحنو وهو يسألها:
في ايه يا ايثار؟
لم تمنع نفسها من البكاء أمامه، وارتمت في أحضانه لتخبره بذلك العبء المثقل في قلبها، فهو في النهاية شقيقها، ويحمل زمرة دمها..
سردت عليه ما حدث كاملاً منذ بداية إلتحاقها بالعمل عند مالك، وما آلت إليه الأمور..
لم تخشَ من ذكر التفاصيل دون حذف أو تجميل..
بل على العكس هي شددت على ذكر ما تشعر به حياله، وكيف لم يتوقف قلبها عن النبض من أجله..
ربما ظنت أنها لم تعد تحبه، ولكن منذ تجدد اللقاء بينهما، وهي أدركت أنها غارقة في عشقه..
استشعر عمرو حديثها كاملاً بقلبه تلك المرة، وأنصت لها بآذان مُحب مثلها..
ولما لا فهو متيم بروان، تلك الشقية التي كان ينبذها يوماً، وبين ليلة وضحاها باتت شغفه..
لمست كلماتها قلبه ورق لها، وأخذ يعنف حاله على تسببه فيما وصلت هي إليه، وبعد أن انتهت من البوح بمشاعرها، وجدته يحتضن رأسها بين راحتيه، ثم نطق هامساً بنبرة عاطفية تحمل العتاب:
كنتي قولتيلي من الأول يا إيثار، ليه شيلتي كل ده لوحدك؟!
ردت عليه إيثار بنبرة متآلمة وهي تحاوط كفيه براحتي يدها:
عشان مينفعش حد يشيله معايا، بس النهاردة حسيت إن كده كتير عليا وكان لازم أتكلم مع حد!
مسد عمرو على شعرها ثم أعاد خصلاته خلف أذنيها وهو يتساءل بإهتمام:
طب وقررتي تعملي إي؟
أجابته إيثار بلهجة قوية عنيدة تحمل من الكبرياء الكثير:
هعمل كل اللي أقدر عليه عشان أقنع صاحبة المكتب تخليني أشتغل عند ناس تانية، مقدرش أروح هناك تاني بعد ما طردني وحسسني بإني أقل من أي حد، كفاية أوي كده!
تنهد بحزن واضح..
تغيرت شقيقته ونضجت..
جعلتها الظروف تقهر كل شيء يحاول العصف بها لتنهض لوحدها من جديد..
ابتسم لها عمرو بحنو، وربت على ذراعيها، ودعمها قائلاً:
انا واثق في اللي هتقرريه وهسيبك على راحتك!
ردت عليه وهي تومئ برأسها:
ماشي
نهض عمرو من جوارها، ثم أشار بيده للخارج وهو يقول:
هطلع أشوف ماما، وانتي ارتاحي ونامي شوية!
هزت رأسها موافقة، فانصرف من حجرتها..
اعتدلت في جلستها، ونظرت حولها بفتور، ثم استندت بظهرها على مؤخرة الفراش، وتنهدت بعمق لتطرد تلك الشحنات السلبية عن صدرها..
مدت يدها لتمسك بإحدى المذكرات خاصتها، وبدأت ترسم بقلمها الرصاصي، هي لا تفقه شيئاً عن فن الرسم ولم تجربه قط، ولكنها اكتشفت أن لديها حركة يد خفيفة ماهرة تمكنها من الرسم بحرفية، فابتسمت لنفسها بسخرية، ولكنها استمتعت بما تفعله..
في هذا الآن، وصل مالك إلى منزل عمته و معه الصغيرة ريفان وشقيقته..
جلس الجميع جلسة ودية أسرية تطرقوا فيها للحديث في مواضيع عامة…
انتقى مالك الوقت المناسب لينفذ مخططة الذي جاء خصيصاً إلى هنا من أجله دون أن يثير الشكوك
هو عزم على عدم الاستسلام أو اليأس مع أول محاولة لصده منها..
هي ملكه، حبيبته، ومعذبة فؤاده، وهو سيستعيدها من جديد..
نعم سيجتهد للوصول إليها أياً كانت النتائج..
هداه تفكيره المتهور بالذهاب إليها في منزلها..
، ولكن ما استوقفه عن تنفيذ ذلك هو رد فعل أخاها عمرو تجاهه خاصة بعد مواجهتهما الأخيرة والحادة، فقرر اللجوء لتنفيذ مخطط أخر…
ولج لحجرته القديمة ثم فتح النافذة وأطل منها لينظر للأعلى بشغف المحب العاشق..
كان ضوء غرفتها مضاء فأستنبط أنها تمكث بها..
زادت حماسته وبدأ يتأهب للتنفيذ..
عاد لداخل الغرفة، و أخرج آلته الموسيقية، ثم عاد ليقف في الشرفة..
أخذ نفساً عميقاً حبسه في صدره ليسيطر على الارتباك الرهيب الذي يجتاحه..
زفر أنفاسه على مهل، وأغمض عينيه ليبدأ العزف على كمانه بعذوبة ساحرة بنفس اللحن القديم..
نعم هو عزفه من أجلها مسبقاً قبل سنوات، وها هو اليوم يقف في شرفته يعيد على مسامعها ألحانه الشجية..
(( ألا تشفقين عليّ حبيبتي؟
ألا تغفرين خطيئتي؟
أنا المتيم العاشق لترابك محبوبتي )).
تناغمت ألحانه مع إحساسه الصادق، ففتح عيناه ليحدق بالأعلى مترقباً تلبيتها لنداء عشقه…
خفق قلبها وبقوة وتحرك في مكانه على إثر سحر نغماته، شعرت بحالة من اللهفة له وقد زاد شوقها إليه..
أكلها الحنين لسماع ألحانه
لرؤيته
للمس كفه..
هي تشعر بالحياة وقيمتها فقط في حضوره الذي يبرز تأثيره عليها..
دار بخلدها لمحات من الماضي اشتاقت لرجوعها والعيش بين طياتها من جديد..
فهبت من مكانها بلا وعي لتقف خلف النافذة فاخترق الصوت آذانها ولمس وتر قلبها.
ترقرقت عبراتها اللؤلؤية على وجنتيها فأطبقت على جفنيها بخزي عندما تذكرت طرده لها ونعتها دائماً بخائنة العهود، بائعة الوعود..
عاتبت نفسها على حنينها الجارف إليه، كيف ترق دوماً إليه وهو سبب شقائها وتعاستها؟
(( ألا تكفين يا نفسي عن الحنين، ألا تملين من الاشتياق إلى من جعلك تعانين؟ ))
رُدت إليه الروح عندما لمح خيالها خلف النافذة، فزاد لحنه شجناً وكأنه يحدثها، يرجوها أن تصفح عنه قسوته حيالها..
ظل يعزف بعصا الحب السحرية واللحن يزيده إحساساً وعاطفة إليها…
انتظر أن يرق قلبها له، وأن تطل بعينيها البندقتين لتراه، ولكنها خذلت توقعاته، فقد اختفى ظلها، وانطفأ ذلك الضوء ليعلن عن رفضها، فتلاشى بريق الأمل من عينيه…
هو علم برفضها لإعتذاره الغير المباشر، واستشف فشله في الوصول إليها عن طريق ما كانت تعشقه منه، فتوقف عن العزف وظلت أنظاره معلقة بنافذتها…
قلبه شغوف بها، ينتظر نظرة من عينيها، وعقله ما زال ساخطاً عليها ويوهمه بعدم قتل كبريائه، ظهر لمعة حزن بحدقتيه ثم أخفض رأسه ليجد شقيقته تقف بجواره عاقدة لساعديها أمام صدرها، فقتمت ملامحه وقست فجأة وهو يقول:
في إي ياروان؟
تنهدت روان بعد أن استشعرت الحزن في عينيه:
طب ليه تعذب نفسك وتعذبها بالشكل ده؟
رد عليها مالك بجمود وهو يجاهد لكي يفر من محاصرتها له وكشفها إياه:
انتي بتقولي إي! مفيش حاجة من الكلام ده..
ارتبك نوعاً ما وهو يتابع قائلاً:
انا بس وحشني العزف مش أكتر، من ساعة ما لانا ماتت وأنا بطلت أعزف تاني، هي الوحيدة في الغربة اللي كانت بتشجعني أعزف!
همست روان وهي تضغط على مرفقه: متغيرش الموضوع وتلف عليا يامالك! أنا اكتر واحدة عارفة انك لسه بتحبها!
ثم صمتت للحظة قبل أن تضيف بهدوء:
و، وهي كمان لسه…!
خفق قلبه بقوة لعبارتهها الأخيرة، هو متأكد من حبها له، ولكنه يخشى من خسارتها..
تعمد مالك ألا يظهر مشاعره أمامها، وتحرك مبتعداً من جوارها وهو يهدر بإنفعال:
روان، مش عايز أتكلم في الموضوع ده
احتجت روان وهي تهز رأسها برفض شديد:
لا مش هسكت، لازم أخليك تواجه نفسك، اللي بتعمله ده حرام ليك وليها، كفاية!
يأس مالك من المقاومة، فعلى من يخفي مشاعره، إنها أخته التي شهدت على قصة حبهما منذ سنوات..
سحب مقعد مكتبه الصغير ثم جلس عليه، ودفن وجهه بين راحتيه وهمس بصوت حزين:.
مكنتش أعرف اني لسه، ، مكنتش أعرف ياروان، وكأني أتلعنت بيها!
اقتربت منه روان، وأخذت تمسح على ظهره بحنو شديد ثم نطقت بنبرة صادقة:
أنا هساعدك توصلها، هطلع أكلمها دلوقتي و…
أفاقته عبارتها من حزنه، وانتبه لها عندما اقترحت الصعود إليها..
ما أثار حنقه هو وجود عمرو بالأعلى، فرفع رأسه بعجالة وهتف بنبرة متشددة ومعارضة:
لأ مش هتطلعي، آآ..
نظرت له بتوجس، فأكمل مبرراً:.
أقصد مش هاينفع تطلعيلها واخوها فوق، بس، آآ، بس ممكن تحاولي تتصلي بيها يمكن فتحت تليفونها!
عضت روان على شفتيها، وردت بحذر وقد تفهمت مقصده وسبب رفضه:
حاضر، اللي يريحك
وبالفعل قامت روان بمحاولات عديدة للإتصال بها ولكن تعذر عليها الوصول إليها، وفشل هو إيضاً عقب محاولات عدة.
إحباط رهيب سيطر عليه، خاصة أن الأمر استمر لبضعة أيام..
أصبح منفعلاً بصورة زائدة، ودائم العصبية والتشنج..
لم يلتفت لعمله طيلة مدة غيابها وكأنها السحر المخدر الذي يمنعه عن كل شيء إلا هي..
كل الطرق إليها باتت مسدودة، ولم يعد أمامه سوى ذلك السبيل…
مديرة عملها، هي الوحيدة التي ستعاونه على الوصول إليها..
وبالفعل أصاب في اختياره، فما إن علمت برغبته في مقابلتها بمقر المكتب حتى شرعت بتنفيذ مطلبه..
فهو يشكل أحد أهم العملاء مع مكتبها، وإرضائه سيضيف إليها، ولذا لن ترفض طلبه.
وفقاً لقواعد وأسس المكتب، يتم الحصول على رقم هاتفي احتياطي للتواصل مع العاملين في حال تعذر الوصول إليهم بالطريقة الطبيعية المباشرة..
وكان هذا الرقم هو رقم والدتها…
حيث قامت المديرة بشخصها بمهاتفة والدة إيثار وإبلاغها بضرورة حضورها لإستلام عمل جديد كبديل عن السابق، ومهامه ستوكل إليها..
شعرت إيثار بالحزن لتركها الصغيرة ريفان بعد أن تعلقت بها جداً، كذلك كانت هي أحد مصادر فرحتها وبهجتها، ولكن ليس بيدها حيلة، فهي مجبرة على الحفاظ على كرامتها وإكمال مسيرة عملها..
فقررت الذهاب للمكتب التابعة له للإتفاق على التعاقد الجديد، وإستلامه.
وطأت بقدميها مقر المكتب، وولجت لحجرة المديرة المسئولة عن المكان، رحبت بها الأخيرة، وأملت عليها بهدوء:.
في أوضة الاستضافة هتلاقي العميل الجديد مستنيكي عشان يتكلم معاكي!
ابتسمت لها إيثار وهي تهز رأسها بإستسلام:
حاضر!
غادرت الغرفة بهدوء، ثم سارت عبر الرواق الطويل والمفترش بالبساط الأزرق السميك حتى وصلت أمام غرفة الاستضافة..
لا تعلم لما كل تلك الرهبة التي بداخلها..
ولا تدري سبب هذا التوتر الذي يعتري كل ذراتها دون داعي..
فتلك ليست المرة الأولى التي ستقابل فيها عميلاً، لكن الأمر مختلفاً..
إحساس غريب يجتاحها يجعل دقات قلبها تتسارع وكأنها في سباق عدو..
استطاعت أن تفسر ماهية كل هذه المشاعر المتوترة عندما وقعت عيناها عليه حينما ولجت لداخل الحجرة…
حدقت فيه غير مصدقة أنه أمامها، وأنها تراه بطلته الآسرة..
اهتز كيانها لرؤيته، وعلت دقاتها من جديد وهي تراه بهيئته الجذابة تلك أمامها..
أفاقت من توترها وصدمتها، و فكرت بالتحرك سريعاً والهروب من أمامه..
هي لن تتحمل المواجهة من جديد..
لم يعد هناك ما يقال، فما قيل قد قيل
وكأنه قد قرأ أفكارها، فقبل أن تبرح مكانها كانتا قبضتيه أسرع إليها..
جذبها من ذراعيها نحوه بقوة لتسقط في أحضانه، وقبل أن تتمكن من إستعادة توازنها، كان قد أحكم اغلاق الباب لينفرد بها…
سرى بجسدها قشعريرة رهيبة، وأصابتها رعشة مزعجة من حضوره الطاغي عليها..
انسلت من بين أحضانه، وتراجعت مبتعدة عنه..
بينما تمعن بدقة وتفرس بتلهف ملامحها التي اشتاق إليها لسنوات..
شعر وكأن دهراً مر علي عدم رؤياها..
رمقها بنظراته المشتاقة النادمة، فشردت فيهما
دنا منها ليجذبها إليه، وكادت أن تستسلم لسحر تأثيره ولكنها سرعان ما أفاقت من تلك الغفوة الصغيرة لتدفعه بعيداً عنها، فلم يقاومها ولم يرفض رغبتها بالابتعاد عن أحضانه وترك لها العنان للتصرف بحرية..
لملمت شتات أمرها واستجمعت شجاعتها المزيفة في وجوده لتقول بسخط:
خير يامالك، بيه.
سيطر مالك على انفعالاته، وتغاطى عن طريقتها وأسلوبها في الحديث، ليجيبها بهدوء:
عايزك تيجي معايا
ردت عليه إيثار بإباء وهي تعقد ساعديها أمام صدرها وترفع رأسها للأعلى ليزداد الشموخ في نبرتها:
معاك! بس أنا سبت الشغل عندك وأظن أنك عارف السبب!
هتف مالك وهو يفرك أنامله بتوتر وكأن الكلمات قد فرت منه:
آآ، انا مش عايزك ترجعي الشغل، أنا عايز أتكلم معاكي بعيد عن هنا.
هزت إيثار رأسها معترضة، وأجابته محتجة وهي تتراجع للوراء بخطواتها:
انا اسفة، مش عايزة ا…
دنا منها بصورة مباغتة أفزعتها، فوجدت نفسها على حين غرة تغطي وجهها بكفيها وكأنه تحمي نفسها من بطشه..
نظر لها مصدوماً من ردة فعلها الغريبة، ولم يترك لنفسه الوقت للتفكير حيث أطبق كفيه على ذراعيها وهمس لها بنبرة قديمة عهدتها منه منذ سنوات، فجعلت قلبها يخفق بشدة وأستسلمت لرغبته دون عناء:.
أرجوكي يا إيثار، حتى لو هتكون أخر مرة نتكلم فيها!
ارتجف جسدها من لمساته، وردت عليه بتلعثم وهي ترفع رأسها لتلاقي عينيه:
أنا آآ…
توسل لها مالك وقد أستطاع أسرها بعينيه التي طالما عشقتهم:
من فضلك مترفضيش طلبي
هميست إيثار وهي تهز رأسها بدون إرادة:
آآ، حاضر
اصطحبها معه في رحلة صغيرة لا تعلم ماهيتها، أو حتى إلى أين..
أثرت الصمت طوال الطريق، فقط يختلس كلاهما النظرات للأخر وكأنة يخطف من الزمن لحظة..
هي بجواره الآن ولكنها تشعر ببعد المسافة وقوة الجدار المبني بينهما ليشكل حائلاً يمنع اقترابهما..
بعد برهة، وصل بها لتلك البقعة التي شهدت أول أيام قصة عشقهما..
، البقعة التي حضرت الوعود والعهود، فظلت البقعة باقية كما هي ولكن تغير كلاهما تغير الشتاء والصيف.
صف سيارته ثم حل حزام الأمان عنه وترجل عنها سابقاً إياها، فقام بالالتفاف حولها حتى وصل للباب الذي تجلس خلفه ثم فتحه لها، ووقف إلى جوارها منتظراً إياها..
ترجلت منه بإستحياء، وتحاشت النظر إليه..
وبدون أدنى اشارات منها نظرت للمكان بعين الوحشة
هي كانت هنا منذ ثلاث أيام ولكنها لم ترى المكان كما تراه الآن..
أشار لها بيده لتسبقه فتقدمت عنه بخطوات، كان وجودها إلى جواره أثناء سيرهما معاً كفيلاً بإحياء ذكريات قديمة قد دفنها ومضى عليها، ..
وقف كلاهما أمام البحر، وشرد هو قليلاً في تلاطم الأمواج..
طالع بنظرات مطولة حركة المد والجزر التي تتدافع بها الأمواج..
بينما كانت هي تستعيد لمحات خاطفة من الماضي البعيد..
طال الصمت بينهما إلى أن قرر قطعه…
ها قد حانت اللحظة التي مضى عليها ثلاث سنوات، التفت إليها وهو يرمقها بنظرات معاتبة ثم أبعد بصره عنها وهو ينطق بتألم شديد:
الأيام مرت والسنين عدت، وأنا لسه في مكاني، انتي اللي مشيتي وقررتي تسيبيني من أول يوم قولتيلي فيه أمشي!
استدارت إيثار برأسها لتنظر إليه..
تجمعت العبرات في مقلتيها، وردت عليه بصوت شبه مختنق:
آآ، انا كنت…!
قاطعها مالك وهو يشير لها بيده لتصمت:.
أرجوكي تسمعيني، المرادي انا جاي هنا عشان اتكلم وتسمعيني!
أبعد بصره وعقله الذي تشتت بتأثيرها المغري عليه وقربها المهلك منه، ثم أكمل حديثه بمرارة وهو محدق بالبحر:
انا كنت بأخون مراتي كل يوم بسببك، كل يوم كانت في حضني فيه كنت بأخونها وانا بفكر في غيرها وبحن ليها، انتي عذابي التلات السنين دول ياإيثار، وجاية دلوقتي تعاتبيني!
مسح على وجهه بكفه ثم طرد زفيراً ملوثاً بالهموم من صدره ونطق بصعوبة بالغة وقد لمعت عيناه بشدة:
هحكيلك، حقك تعرفي كل اللي متعرفيهوش عن حياتي في التلات سنين دول، لأننا مديونين لبعض يا إيثار، ايوه احنا مديونين لبعض…!
(( ذِكرى تليها ذكرى
تهاجمني حتى في صحوي..
ككابوسٍ مُزعج لا أفيق أبداً منه
وَ مُقتحماً بوقاحةٍ أعمق أحلامي..
فأتلذذ فيهم برؤية طيفك، ))
طالع أمواج البحر المتلاطمة أمامه بنظرات حزينة وشاردة، مرت عليه سنوات عمره وكأنها أدهر..
أخذ نفساً عميقاً حبسه في صدره لعل هواء البحر البارد يطفيء نيران روحه المستعرة..
زفره ببطء فبدى كأنه ينفث ألهبة حارقة من فمه..
التفتت إيثار نحوه برأسها، وحدقت فيه بنظرات متأملة بدقة لملامحه الحزينة..
تلك التعابير التي لم تراها مسبقا بوضوح..
وتساءلت بلهفة بين جنبات نفسها عما مر به، هل كان مثلها يعاني؟ هل أضناه قلبه وتعذب بلهيب الفراق؟
تساؤلات صامتة أشعلت روحها تلهفاً لمعرفة ما حدث معه، لكنها لم تجرؤ على السؤال..
انتظرت أن يبدأ الحديث بنفسه ولم تتعجله..
تنهد مجدداً بعمق مرير، ثم استطرد حديثه قائلا بصوت رخيم بعد أن أغمض عيناه ليستسلم لذكرياته:
كنت في دنيا تانية عايش على أحزاني و، آآ..
قبل ثلاث سنوات
فتح مالك عينيه على أصوات التشجيعات والتصفيقات العالية بعد أن أنهى عزف تلك المقطوعة الشجية..
ابتسم بود وهز رأسه بإيماءة خفيفة…
تحركت عيناه على أوجه الحاضرين، فوقعت كلتاهما عليها، ورأها وهي تنظر له ببريق غريب..
ابتسم مجاملاً، واستدار بظهره ليعيد وضع آلة الكمان في مكانها..
دنت منه وهي تنظر له بحماس، ثم أثنت عليه برقة بلغتها التركية:
أنت تعزف ببراعة!
لم يفهم ما قالته ولكنه استشف من طريقتها أنها معجبة بعزفه، فابتسم لها بتهذيب، وحرك رأسه بإهتزازة خفيفة..
تابعت هي قائلة باللغة الانجليزية:
أنت رائع!
أجابها بإبتسامة هادئة بنفس اللغة:
أشكرك
ثم تركها وانصرف، فظلت أنظارها معلقة به، هي رأته من قبل، ولكنها لا تتذكر أين..
لكن هناك شيء ما به يجذبها بشدة إليه، شيء جعل قلبها يدق بقوة في حضوره..
بدت مألوفة نوعاً ما، هو واثق أنه التقى بها، ذلك الوجه الملائكي ذو الأعين الزرقاء والخصلات الذهبية..
أفاق من شروده حينما استوقفه أحد اﻷشخاص قائلاً بجدية بلغة تركية:
من فضلك انتظر!
نظر له مالك بإستغراب، وقطب جبينه نوعاً ما، وهز رأسه في عدم فهم..
تابع الرجل قائلاً بإهتمام:
سيدي نحن نقدر المواهب، ونأمل أن نتناقش سوياً في مسألة عملك هنا!
رد عليه مالك بعد أن استصعب فهم ما يقوله وهو يشير بيده:.
بص أنا مش عارف انت بتقول ايه بس آآ…
لمحه رفيقه نادر وهو يتحدث إلى أحد الغرباء فأسرع نحوه وتساءل بقلق:
في حاجة حصلت يا مالك؟
أجابه مالك وهو يحرك كتفيه في حيرة:
هو موقفني عشان يكلمني، وأنا مش فاهم منه حاجة!
تساءل نادر بجدية وهو يوجه حديثه للرجل باللغة التركية:
ما اﻷمر؟ هل هناك خطب ما؟
أجابه الرجل بجدية:
أنا من إدارة المكان وأريد أن أعرض على السيد العمل معنا، فقد استمعت إلى عزفه وهو حقا يعزف ببراعة!
ارتفع حاجبي نادر في إعجاب، وهتف غير مصدق:
حقا، أنا لا أصدق ما تقوله!
لاحظ مالك تبدل تعبيرات وجه رفيقه من الجدية للسعادة، فتساءل بنزق:
هو بيقول ايه؟
أجابه نادر بإبتسامة عريضة:
ده بيعرض عليك تشتغل هنا
عقد مالك ما بين حاجبيه في تعجب كبير، وردد بذهول:
اشتغل؟!
أكمل الرجل حديثه الجدي قائلاً:
أخبره أننا سندفع ما يريد من اموال تقديرا لموهبته
غمز له نادر وهو يترجم ما قاله الرجل بمزاح:
ابسط يا عم هتسترزق.
هز مالك رأسه بحيرة، وهتف بنفاذ صبر:
انا مش فاهم حاجة
أجابه نادر بهدوء واثق:
هافهمك
وبالفعل أخبره رفيقه برغبة مدير المطعم في تشغيله ضمن الفرقة الموسيقية التي تعزف هناك، وسيتقاضى مبلغاً مادياً معقولاً عقب كل حفلة..
عاد هو إلى المنزل وهو يفكر ملياً في ذلك العرض السخي بالعمل.
هو بحاجة ماسة إلى أموال لينفقها على نفسه طوال فترة تواجده بتركيا فلا يوجد مصدر دخل ثابت له حالياً إلا وظيفته في الشركة، وهو يريد أن يكون بحوزته سيولة مادية..
لذلك قبل بالعمل مضطراً رغم اعتزاله للعزف بسببها..
نعم فهي تذكره بحبه الجارف لها…
لكنه مرغم على الحنث بوعده اﻵن، ليس من أجلها، ولكن من أجل نفسه..
تنهد بآسى، واتجه إلى حقيبته ليخرج تلك الصورة المطوية التي اكتشف وجودها مصادفة، حدق فيها مطولاً، ثم حدثها بنبرة مريرة:
مش هاضيع نفسي عشانك، هنساكي، وهاكمل حياتي! إنتي كنتي فترة وانتهيتي!