قصة علبة الجبنة البيضاء الحياة دي غريبة جدًا، وميزتها من وجهة نظري هي غرابتها.. مش شرط إنك لما تسمع قصة تطابقها على الواقع، لأن الواقع مليان قصص خارج حدود معرفتك، وكل واحد فينا مهما سمع وشاف فمعرفته محدودة.. وعشان كده الحكاية دايمًا ميزتها في إنك ماتقدرش تطبقها على حدود تجربتك، لأن مهما كانت تجربتك كبيرة ودسمة، فهي هتفضل مش كاملة.. خليك فاكر إني قولت لك؛ الدنيا دي غريبة، وكل ما تسمع أكتر كل ما تستعجب أكتر، وعشان تفهم أكتر لازم تسمع حكايات عمرك ماتستوعبها أكتر. وساعتها هتلاقي نفسك بتقابلها في الواقع.. وتقول أنا سمعت الحكاية دي وعمري ما اتخيلت إنها تحصل في الواقع.
لما كنت طفل صغير، الفترة اللي ماما دايمًا بتخلي طفلها يبدأ يستطعم الأكل ومتعته، زي ما بيقولوا تلحسه الأكل عشان لسانه يتعود عليه وتبدأ تمهد لفطامه، غالباً أو حاجة بيلمسها لسان الطفل وبيستطعمها بتبقى أكتر أكل بيحبوا لما يكبر.. وغالباً بتبقى تمرة، بطاطس، تفاحة، موزة.. لكن أنا أول حاجة استطعمتها كانت حتة جبنة بيضا.. ومن هنا بدأت قصة عشق للجبنة استمرت لحد ما بقى عندي ٨ سنين، وساعتها حبي للجبنة اتحول للعنة، وغير حياتي بالكامل.
نزلت يومها الصبح مع جدتي السوق، واشترينا حاجات كتير جدًا، ولما خلصنا وجينا نطلع وأول ما دخلنا شارعنا سألتها:
ـ تيتة إحنا ليه ماجييناش جبنة؟
عملت رد فعل إنها نسيت، وقالت لي إنها هتجيب لي الجبنة اللي بحبها، سابت الشنط عند بتاع البن اللي على أول شارعنا، وقالت له خلي الشنط، ونبهت عليا أقعد استناها لحد ما تيجي، وإنها مش هتغيب غير دقيقتين.. وقعدت استنيتها، وبمجرد ما غابت عن عيني، سمعت صوت صرخة فزعتني، كانت صرختها، صرخة خلت قلبي يترعش جوه صدري، وجسمي يتنفض زي ما أكون اتكهربت.. الناس جريت وأنا بصيت من بعيد، عشان ألاقي جدتي واقعة على الأرض ميتة والجبنة واقعة من ايديها ومختلطة بدمها، بعد ما خبطها واحد بالتوكتوك، وعرفت بعد كده إنه كان راجع بضهره وداس عليها وقعها على حجر فماتت في ساعتها.. ومن هنا الجبنة بالنسبة لي بقت رمز للموت والبشاعة والكآبة، لأن ستي راحت وقالت دقيقتين وراجعة.. وللأسف مارجعتش..
فضلت فترة كبيرة عايش في كابوس، الجبنة بقت مصدر رعبي، وأنا صاحي، ووأنا نايم.. دايمًا الجبنة هي الشبح اللي بقى مهدد حياتي، جالي صدمة نفسية كبيرة جدًا وقوية، وياريتها وقفت عند هنا وبس.. ده حصل الأبشع.
كأن الموت ارتبط بوجود الجبنة أو العكس، في علاقة اتولدت بين الموت والجبنة جوايا، أو بمعنى أوضح سيطرت على حياتي للأبد.. بعد حادثة موت ستي، بقيت بحس إن أي جبنة بشوفها أو أشم ريحتها حتى كأنها الموت نفسه، زي شيطان خفي بيتسحب وبيدخل جوايا وبيهمس بكلام مش مفهوم.
في البداية قولت لنفسي إن ده مجرد وهم أو تأثير الصدمة. لكن في يوم، لما كنت في السوبر ماركت مع أبويا، وأنا ماسك العربية اللي بنلم فيها الحاجات، عيني جات على رف في علب جبنة من كل شكل ولون.. ساعتها خوفت جدًا وجسمي اترعش زي ما أكون شوفت عفريت، مش قادر أبص للجبنة نهائي، مع كل نظرة كنت بشوف شريط ذكرياتي بيعدي قصادي، موت ستي، وقوعها على الأرض والجبنة مختلطة مع الدم.. وفجأة ظهر راجل عجوز قرب من رف الجبنة، ايده وأخد علبة جبنة فيتا، وبمجرد ما خدها سمعت صوته بيزوم زي ما يكون بيطلع في الروح، ومرة واحدة وقع اترزع على الأرض، صرخت، الناس اتلمت بسرعة..
من غير وعي. فجأة سمعت صوت غريب، صوت حاجة بتقع جامد وصرخة ورايا.. الناس اتلمت في لحظة، وأبويا شدني بسرعة ومشينا رجعنا البيت، وساعتها
أبويا ماعلقش، يمكن فاكر إن اللي شافه وهم. لكن أنا لأ، كنت عارف.. العلبة كانت بتبص لي، بتضحك عليا.. وكان في أثر دم على هدومي، مع إن الراجل وقع عادي، بس ما أعرفش الدم ده جه منين، هل ممكن تبقى تهيؤات؟ ولا أثر الصدمة القديمة متراكم جوايا.. طيب أنا بس اللي شايف الدم ولا أبويا كمان؟ ما أعرفش أي إجابة.. لأن ببساطة أبويا ماقليش أي حاجة نهائي.
الأيام بعد كده كانت أصعب.. كل مرة أشوف فيها جبنة يحصل لي شيء غلط، شيء مرعب. حاجة تتكسر، حاجة تتدمر، أو حد يتعور أو يتصاب.. مش بس كده؛ كوابيسي بقيت متكررة. دايمًا بحلم بالجبنة بتسحبني لمكان ضلمة، وأسمع أصوات صرخات، وأصوات ناس كتير بتجري وبتهرب، ومش عارف بيجروا أو بيهربوا من إيه.. ده غير إحساسي إن في عيون حواليا في كل مكان بتراقبني.. مابقيتش مستحمل، في الوقت ده كنت طفل عندي ١٢ سنة بس، مش ماقدرتش أتعايش مع كل الكم ده من الضغط والتوتر، وخوفي من الجبنة اللي بقى خوف مرضي.. فقررت أحكي لأمي، فكرت إني يمكن لو حكيت لحد أقدر أتخلص من اللعنة اللي بتطاردني.. وماستنيتش لحظة، وقفت قصاد ماما وقولت لها:
ـ ماما.. أنا محتاج أقولك حاجة مهمة، حاجة مخوفاني أوي، أنا.. أنا بخاف من الجبنة، بحس إن في وراها حاجة مش طبيعية، ومابكونش طبيعي لما بشوفها، ودايمًا بتحصل لي حاجة وحشة.
بصت لي وضحكت وقالت:
ـ أنت لسه بس متأثر بموت تيتة يا حبيبي، دي كانت حادثة وخلاص، مجرد قضاء وقدر.
لكن بمجرد ما خلصت جملتها، سمعنا صوت انفجار حصل في المطبخ.. جرينا بسرعة لقينا التلاجة مفتوحة، وعلبة الجبنة الكبيرة اللي على طول في البيت مرمية على الأرض، كأن حد حدفها من التلاجة بكل قوته.. ولما قربنا لقينا بقعة دم كبيرة حوالين العلبة، والدم ده كان بيجري ببطء ناحيتنا.
أمي وقفت اتسمرت مكانها، وشها قلب أبيض، وأنا حسيت برجلي بتتخشب.. ماحدش فينا فاهم إيه اللي حصل.. وبعد الموقف ده أمي قررت إنها ماتفتحش الموضوع ده خالص، وبدأت تخاف مني، وتتعامل معايا بحذر.. وأنا بدأت أفكر إن فعلاً الموضوع اتحول للعنة حقيقية.
لكن القصة دي ماكنتش النهاية، مهما كانت مرعبة، فهي مجرد البداية. الجبنة كان ليها خطط تانية أسوأ عشان تشقلب كياني، كإنها مش مجرد أكل طعم لذيذ وخلاص، دي اتحولت لكيان شيطاني بيطاردني.
الأيام بعدها عدّت بطيئة كأنها بتعاندني.. البيت فضل هادي أكتر من اللازم، كأن الكل بيحاول يتجنبني.. أمي ما بقتش تقرب مني كتير، دايمًا تطلب مني أكون في أوضتي أو أقفل على نفسي لما تبقى في المطبخ. أبويا كان مشغول بشغله، أو يمكن كان بيهرب من فكرة إن ابنه ممكن يكون فيه حاجة مش طبيعية.
لكن اللي حصل يوم خميس ده كان نقطة اللاعودة.. ساعتها كنت لوحدي في الأوضة بذاكر، أو بمعنى أصح بحاول أركز في أي حاجة تلهيني عن الأفكار اللي بتجري في دماغي.. وفجأة سمعت صوت جاي من التلاجة في المطبخ.. الصوت كان أشبه بباب بيتفتح ويتقفل بهدوء، بس إحساسه كان مرعب ومخيف.
اتحركت على طراطيف صوابعي، قلبي بيدق بسرعة غريبة.. وخرجت من الأوضة بهدوء، ولما وصلت عند باب المطبخ.. شوفت منظر عمره ما هيتمسح ولا هيروح من دماغي.. التلاجة كانت مفتوحة، بس دي مش المشكلة. المشكلة كانت في إن علبة الجبنة البيضا مرمية على الترابيزة اللي في المطبخ، والأغرب إنها كانت مقطعة شرايح، وشريحة منها متعلقة في الهواء كأنها بتتقطع لوحدها، في حد بيقطع الجبنة وأنا مش شايفه.. بلعت ريقي بصعوب، اتخشبت في مكاني مش عارف أعمل إيه.. بعد لحظة الشريحة دي وقعت على الأرض، بس صوت الوقعة كان أعلى من الطبيعي. الصوت عمل صدى في دماغي، ماحسيتش بنفسي ساعتها، من الخوف طلعت أجري بسرعة ودخلت أوضتي، جسمي كله بيرتعش. قفلت باب الأوضة على نفسي كويس، وحطيت المكتب ورا الباب عشان أضمن إنه ما يتفتحش.. لكن المشكلة ما وقفتش عند كده. سمعت صوت خطوات على السلم، خطوات بطيئة كأن حد مش قادر يرفع رجليه من على الأرض أو تقيل ماشي بيقرب ناحيتي.
فضلت قاعد على السرير ماسك مخدتي وبترعش، مش عارف أعمل إيه ولا اتصرف إزاي. الخطوات قربت من الباب أوي وساعتها وقفت للحظة، وبعدها سمعت صوت همسة: “افتح… افتح وواجهني.”
أنا آه كنت بحب اتفرج على أفلام الرعب، لكن ولا مرة اتمنيت إني ممكن أعيش في واحد منهم.. حسيت إني مش عارف آخد نفسي، وكل اللي كنت عايزه وقتها هو إني أصحى من الكابوس ده.. وفجأة سكت الصوت زي ما ظهر فجأة.. فضلت مكاني مش بتحرك، بس بعد دقيقة سمعت صوت صراخ عالي، كان صوت أمي بتصرخ صرخات رهيبة.
طلعت أجري من الأوضة بسرعة، لقيت أمي واقعة على الأرض في المطبخ، وإيديها على وشها.. الدم كان مغطي الأرض حوالين رجليها.. قربت منها ولسه هسألها إيه اللي حصل، لكني شوفت حاجة خلّت قلبي يقف.
كانت فيه كلمة مكتوبة بالدم على الأرض. كلمة واحدة: “لَعْنَة.”
أمي رفعت وشها بس كان فيه حاجة غريبة.. عينيها حمرا بلون الدم، وقالت بخوف وغضب:
ـ أنت.. أنت السبب.. كل ده بسببك.
في اللحظة دي سمعت صوت باب الشقة اتفتح بقوة، وأبويا دخل شايل شنطة.. ملامحه اتغيرت أول ما شاف أمي واقعة على الأرض، وساعتها ماقومهاش ولا سألها عن أي حاجة، لف بسرعة وبص ناحيتي وقال لي بغضب:
ـ أنت السبب، لازم أنت اللي تنهي كل ده
سألته: تقصد إيه؟ لكنه ما جاوبش على سؤالي، مسكني من دراعي بقوة، وجرني معاه لباب التلاجة المفتوح. مد إيده جوه التلاجة، وساعتها أنا قدرت أهرب ورجعت جري على الأوضة وأنا سامع صوت المنبه بيضرب وصوت أبويا بيقول:
ـ اصحى يا أحمد عشان المدرسة.
كل ده كان مجرد حلم، كابوس مرعب بقى مسيطر على كل حاجة في حياتي.. قومت غسلت وشي وغيرت هدومي، وساعتها لقيت أمي بتعمل لي سندوتشات جبنة، حاولت أرفض بس ماقدرتش، أنا مش عارف كانوا بيعاقبوني ولا مش هاممهم خوفي، ليه الأهالي مابيهتموش بنفسية ولادهم، ليه مضطر أواجه الشيء اللي دمر نفسيتي؟
لما نزلت من العربية قصاد المدرسة وبابا مشي، فتحت الشنطة بسرعة وخرجت منها كيس السندوتشات، الجبنة جواه باين عليها علامات العفن، لكن الأغرب إني لقيت مكتوب على الكيس نفس الكلمة اللي شوفتها مكتوبة بالدم في الحلم: “لَعْنَة.”
هنا فهمت إن الحكاية لسه طويلة.. وإن اللي جاي أبشع من اللي فات.. مسكت الكيس بسرعة ورميت في صندوق الزبالة ودخلت المدرسة وأنا بحاول أهرب، وماكنتش مدرك وقتها أنا فعلاً بهرب من خوفي ولا الصدمة ولا الجبنة بذات نفسها..
عدت السنين بعدها بس كأن الوقت وقف بالنسبة لي، عند اللحظة اللي جدتي وقعت فيها في الشارع.. منظرها وهي مرمية على الأرض والدم مختلط بالجبنة اللي وقت من إيدها ما فارقش خيالي أبدًا.. كنت كل يوم أصحى على كابوس جديد، دايمًا فيه جبنة، دايمًا فيه دم، ودايمًا آخر كلمة قالتها لي بتتكرر في وداني: “دقيقتين وراجعة.”.. بس للأسف مارجعتش.
كبرت وأنا شايل إحساس غريب بالذنب.. لو ما كنتش طلبت منها تجيب لي الجبنة.. لو كنت ساعتها قولت لها مش لازم.. يمكن ما كانتش ماتت. الأفكار دي مسكت في عقلي، زي ما اللعنة مسكت في حياتي.
كل ما أحاول أهرب ألاقيها مستنّياني. في المدرسة، مرة مدرس العلوم كان بيشرح لنا حاجة عن الألبان، وطلع علبة جبنة بيضا يشرح عليها.. أول ما شوفتها كأني سمعت صوت صوت “تيتة” وهي بتقع على الأرض.
وقتها قومت من مكاني وأنا مصدوم، وحسيت إني بتخنق ومش قادر آخد نفسي.. كل صحابي كانوا بيبصوا لي، والمدرس سألني:
ـ مالك يا أحمد؟ أنت كويس؟
ما عرفتش أرد، خرجت من الفصل وفضلت قاعد لوحدي في حوش المدرسة أرتعش وأحاول أتنفس.. المدرس خرج ورايا وحاول يهديني، وبعدها حاول يسألني كتير عن السبب لكني ماجاوبتهوش واحتفظ بالسر لنفسي.
لما وصلت لين الـ25، كنت خلاص فاقد الأمل إني أعيش حياة طبيعية. اشتغلت كمحاسب في شركة صغيرة، حياتي ما بين شغل وبيت وعلاقات قليلة مع الناس اللي حواليا.. لكن مهما حاولت أعيش، الأحلام كانت بتلاحقني كل ليلة.
في الكوابيس كنت بشوف نفسي في المكان اللي جدتي ماتت فيه.. برغم إننا عزلنا، وبكون صغير زي ما أنا، لكن المرة دي الشارع مختلف.. مضلم، ومافيش حد غيري.. وفي آخر الشارع تلاجة مفتوحة، وسحب من البخار بتخرج منها.
ولما أقرب منها، أسمع صوت همسات غريبة، وأشوف نفس الكلمة اللي كانت محفورة على الجبنة في الحوادث اللي بعد كده: “لعنة.”
صحيت كتير أرتعش، ودموعي نازلة من غير وعي.. أمي كانت بتحاول تخفف عني:
ـ يا ابني دي كوابيس، مافيش حاجة اسمها لعنة.
كنت أحاول أصدقها، لكن الحقيقة كانت بتظهر من جديد وبطريقة أبشع.
وفي يوم لما رجعت من الشغل، فضلت أنادي على أمي كالعادة بس ماردتش، قلبي دق بسرعة، ولما دخلت المطبخ، لقيتها واقعة على الأرض وجنبها طبق فيه حتة جبنة.. وشها كان شاحب، وعينيها مفتوحة ومبرقة.. وأدركت ساعتها إن أمي ماتت.
وبعدها عرفت من دكتور الصحة إن سبب موتها تسمم غذائي، وإن الجبنة كانت السبب.. مابقيتش قادر أصدق اللي بيحصل لي، قضاء وقدر وكل حاجة آه، بس الجبنة مشتركة في كل الكوارث.. هل من العقل إن الجبنة تبقى هي قدري؟
بعد موت أمي، حسيت إن كل حاجة ماتت حواليا، ما بقيتش قادر أعيش في البيت، لكني كنت عارف إن الهروب مش هيحل المشكلة.. في ليلة كنت في أوضتي، وسمعت أصوات غريبة جاية من التلاجة، صوتها كان عالي أشبه بخبط متواصل، روحت ناحيتها وأنا بحاول أشوف السبب، أول ما فتحتها، لقيت قدامي علبة جبنة جديدة، ما عرفش مين اللي جابها، أبويا مسافر تبع شغله، وأنا قاعد لوحدي، جت هنا إزاي؟.
لكن بجِملة كل الحاجات الغريبة اللي بتحصل لي، قررت أقفل التلاجة وآخد العلبة أرميها.. ساعتها شميت منها
ريحة فاسدة، زي جثة قديمة مدفونة في مكان مليان ماية.. مابقيتش قادر اتحمل، بقيت هتجنن، لدرجة إني حطيت علبة الجبنة قصادي وفضلت أزعق لها كإني بتكلم مع شخص: “عايزة مني إيه؟”
الأوضة بدأت تتهز، وكأن زلزال ضرب المكان. حاجات كتير وقعت من على الرفوف، وفي فاظة وقعت اتكسرت.. في اللحظة دي سمعت صوت جاي من ورايا بينادي باسمي، لما لفيت شوفت واحد واقف في وشي.
الشخص ده كان نسخة مني. بس مش أنا كحقيقة.. شبه شفاف وعينيه لونها أسود بالكامل.. اتخضيت ورجعت لورا خطوتين وسألت:
ـ أنت مين؟
ـ أنا هو أنت.
قالها وهو بيقرب أكتر.. وكمل كلامه:
_ أنا النسخة اللي أنت حاولت تهرب منها طول عمرك.
النور بقى ضعيف مرة واحدة، والبرد بدأ يزحف من كل ناحية، وأنا ما كنتش عارف إذا كنت فعلاً صاحي ولا في كابوس.. دقات قلبي بقى صوتها مسموع.. مسكت عصاية البلتكانة الخشب اللي كانت مرمية جنبي، ووقفت مترقب، عيني بتلف في كل الاتجاهات.
الضباب بدأ يزيد، ومابقيتش شايف الشخص اللي شبهي وكلمني ده، لكن بعد ثواني سمعت صوت بيقول:
“ما تخافش،”
الصوت كان هادي، لكنه في نفس الوقت مخيف ومرعب، زعقت وأنا بترعش:
ـ أنت مين؟ عايز إيه؟
رجعت خطوة لورا، وأنا ماسك البلتكانة الخشب بقوة كأنها سلاح أدافع بيه عن نفسي.. لكن هدافع بيه ضد مين؟ أنا عايش ولا ميت ولا اتجننت؟ الصوت رد عليا:
ـ قولت لك إن إحنا واحد.
فجأة حسيت الأرض بتتهز تحت رجلي، والجو كله بقى مشحون، صاحب الصوت ظهر من الضباب واتحرك خطوة ناحيتي، وأنا كنت متسمّر في مكاني مش قادر أتحرك ولا حتى أرمش، قال لي بثبات:
ـ فيه ذكرى بوظت حياتك، الذكرى دي هي مفتاح الحل لكل حاجة، بدل ما تخاف واجه مشكلتك أحسن.
فجأة كل حاجة اختفت، أنا مش عارف إيه اللي حصل لي في اللحظة دي.. بس أنا قاعد قدام التلاجة، وساعتها شميت ريحة جبنة معفنة، حسيت كأني في مكان مضلم ومعزول، وكل حاجة حواليا اتجمعت واتكومت على بعضها لدرجة إني مش قادر أركز. أنا ببساطة مش قادر أهرب من لعنة الجبنة دي.
والسؤال اللي لسه بيشغلني ومش لاقي له إجابة: “هي عايزة مني إيه؟”
كنت مش قادر أصدق، يعني هل ده حقيقي؟ الجبنة هي اللي بتسبب كل الكوارث دي؟ ولا أنا اللي كنت ضعيف لدرجة إني ربطت بين كل حاجة سيئة حصلت لي في حياتي وبينها؟
مش قادر أسيطر على تفكيري أو ألاقي حل وتفسير، أفكاري عاملة زي قطر طاير ومش لاقي محطة يوقف فيها.. فتحت التلاجة مرة جديدة، ولقيت علبة الجبنة في نفس المكان، وفي نفس اللحظة حسيت بشيء غريب.. زي ما يكون في حد معايا وبيراقبني.. في الوقت ده هاجمتني ذكرياتي القديمة مع ماما.. كانت دايمًا بتقول لي: “أنت اللي جبت المصايب دي لنفسك.” أوقات كنت فاكر إن كلامها كان مجرد تأنيب ضمير طبيعي، لكن مع مرور السنين بدأت أشك إن الكلام ده كان في حاجة أكبر. وكأنها كانت بتشوف اللي أنا مش شايفه. كانت عارفة اللي حيحصل قبل ما يحصل.
وفي وسط الأفكار دي، بدأ الصوت يتكرر من جديد. الهمسات اللي كنت بسميها هلاوس بدأت تبقى واضحة، وكأن حد بيقول لي “افتح الباب.. افتح وواجهني.” الصوت ده بقى واضح أكتر من أي وقت عدى، وكنت سامعه كأنه في عقلي بيتردد جوايا.
صوت الخطوات رجع من جديد بتقرب تاني، لكن المرة دي كان الصوت أقل.. كنت متأكد إني مش هقدر أواجه، أنا مش عارف بواجه إيه أصلًا.. بصيت للجبنة وأنا حاسس إنها ضحكت على عقلي لآخر مرة..
وفي وسط الهمسات والضغط اللي بقى فوق طاقتي، سمعت صوت رعبني وخلى الدم ينشف في عروقي:
“لو عايز تتخلص من اللعنة، في حاجة مهمة لازم تعملها.”
أنا مش فاهم أي حاجة، هل دي الجبنة اللي بتتكلم معايا؟ هل ده كابوس احتل حياتي وسيطر عليا طول السنين دي؟ ولا فعلاً في حاجة في الجبنة نفسها مش طبيعية؟ أنا حاسس إن الجبنة دي إنسان بيكلمني، أو شيطان بيلعب بيا.
وبدأت أكلم نفسي أكتر: “هل فعلاً أنا الوحيد اللي حصل لي الحاجات دي؟ ولا ممكن يكون في ناس تانية عاشت وشافت خوف وصدمات تجاه حاجات مستحيل حد يخاف منها؟
كنت حاسس إن الزمن نفسه بيتلاشى، والمكان بدأ يلف حواليا زي دوامة. مش قادر أهرب من الهمسات اللي بتتردد في كل مكان.
وطبعا، كنت عارف إني مش هقدر أتخلص من كل ده إلا بالمواجهة، بس هواجه إزاي، وهواجه مين أصلا، أواجه نفسي، ولا خوفي ولا الجبنة ولعنتها؟
*******
أنا دكتور سامي فؤاد، أخصائي الأمراض النفسية في مستشفى ما بدون ذكر اسمها، ومع الأسف كان من المقدر لي أن أتعامل مع القصة دي، لكن ما كنتش عارف إن الحكاية هتنتهي بالشكل ده.
إحنا دايمًا بنواجه حالات غريبة، لكن القصة دي كانت غير عن أي حاجة أنا سمعتها أو شوفتها في حياتي.. لما أحمد جالي لأول مرة، كان عنده أعراض غريبة جدًا، وكانت أول مرة نسمع عن حالة خوف غير طبيعي من الجبنة.. الموضوع يبدو بسيط في الظاهر، لكن مع كل جلسة كنت بكتشف عمق المرض العقلي اللي هو فيه، وتدريجيًا بدأنا نفهم إن الموضوع أكبر بكتير من مجرد فوبيا أكل أو شرب.
أحمد كان بيجيني العيادة في الأول، وفي كل مرة وهو بيحكي عن كوابيسه، عن الصرخة الغريبة اللي سمعها وهو صغير، والجبنة اللي كانت بتتحرك قدامه، والناس اللي حواليه اللي كانوا بيتحولوا لأشكال غريبة. كل ده كان يخليني أتوتر، لكن زي أي دكتور محترف، كنت بحاول أركز في تشخيص الحالة، وأفهم معاناته. في البداية كنت فاكر إنه مجرد خوف مبالغ فيه أو فوبيا زي أي فوبيا، لكن مع مرور الوقت، بدأ يظهر لي شيء غريب جدًا في حالته.
كان واضح إن الخوف مش من الجبنة بحد ذاتها، ولكن من معاني أعمق، أشياء مش ظاهرة، مخاوفه كانت بتتحكم في عقله بشكل غير طبيعي، وبتدفعه لخلق واقع غريب جدًا. زي ما يكون عقله خلق لعنة وهمية عشان يهرب من شيء في حياته. بعد جلسات كتير من العلاج، وفي لحظة صدق مؤلمة، بدأ أحمد يفتح لي عن ماضيه بشكل أعمق.. وساعتها قال لي:
ـ أنا مش فاهم ولا مستوعب اللي بعيشه، من أيام ما كنت طفل وقتها، وكل حاجة كانت متشابكة في دماغي. الصوت والجبنة والموت والدم لعنات كانت بتلاحقني في كل مكان.. والصرخة اللي جدتي صرختها كنت بسمعها طول الوقت.
وبعدها أحمد صرخ وبكى وهو قاعد قدامي، وكأن الخوف والكوابيس جزء كبير جدًا في حياته وشخصيته، وكان في عينيه شيء من الحيرة والحزن.
لكن هنا كان الفهم الحقيقي بيبدأ يظهر. كنت قادر أشوف الصورة كاملة بعد جلسات كتير، ولما قررت أحوله للمستشفى عشان يبقى تحت الملاحظة المستمرة.. الجبنة في حد ذاتها مش هي المشكلة الأساسية، لكنها الحاجة اللي أحمد قدمها رمزية أو اسقاط لألم أعمق حصل في حياته، لحاجة أو موقف ما كانش قادر يواجهه في حياته. محمود كان بيعاني من اضطراب نفسي عميق جدًا، غير قادر على التفرقة بين الواقع والخيال.
عقدة الذنب وإحساسه إنه السبب في موت جدته اتحول لشبح دمر حياته، وبقى بيربط أي حاجة بتحصله بالجبنة، زي الناس اللي بتتفاءل وتتشائم بلبس معين، أو مكان أو يوم، فلما ده يحصل لطفل، ويكون هو نفسه عامل أساسي فيه، يعمل صدمة ماتفارقش شخصيته أبدًا.. بالإضافة لإهمال أسرته الموضوع كمان، واعتبار إن دي مجرد حادثة والأيام بتنسي، جعل من أحمد شخص تاني خالص، شخص عايش في عالم موازي بتتحكم في صدمته وعقدة الذنب برمزية الجبنة اللي بتهدد حياته وحياة كل حد بيحبه.
ومع تفاقم الوضع.. بقى سامع صرخة جدته جاية من الجبنة، كإنها صرخة من عالم آخر.. عالم مليان بالجبنة المرعبة المخيفة المختلطة بالدم والموت والخوف.. ولو في ناس بتشوف إن ده عادي، فاحب أقول إن المخاوف مختلفة بين الناس.. يمكن أنت تخاف من الكلاب، أو معظم البنات بتخاف من الصراصير، وفي فوبيا مختلفة وغريبة زي فوبيا الخوف من شُرب الماية.. وعلى فكرة في أغلب الأوقات والحالات بتكون بدون أي سبب خالص.. هو كده خوف مرضي الإنسان بتولد بيه.
في حالة أحمد كمان اكتشفت إنه عنده اضطراب نفسي معقد جدًا، بس هو ماكنش بيعترف بالحقيقة، الحقيقة إن جزء من الخوف اللي كان بيحس بيه كان بسبب الماضي المشوّه. اكتشفت أن والديه انفصلوا بعد الحادثة بفترة، وده خلاه ينعزل أكتر، ويخاف على والدته أكتر، ويتخيل إن والده مسافر مش منفصل عنهم ومايعرفش مكانه.
وفي آخر جلسة ليا معاه من شوية، كان في عينيه نظرة غريبة، مش شجاعة ولا خوف، لكن نوع من الوعي وقال لي:
ـ أنا كنت فاكر إن الجبنة لعنة بتلاحقني يا دكتور. بس دلوقتي فهمت إن نفسي هي اللعنة الحقيقية، عقلي ومرضي وخوفي، لما عشت أهرب من الماضي ومن الشعور بالفقد.
وفي اللحظة دي، أدرك أحمد أنه كان بيحارب خيالاته وأوجاعه اللي خلقها عقله. الجبنة، أصوات الهمسات، الصرخة، كل ده كان مجرد جزء من صورة وهمية لتشويش عقلي عميق.
زي ما هو واضح، القصة ما كانتش عن لعنة قديمة أو قوة خارقة، ولا كانت عن خرافات مأخوذة من الماضي. القصة دي كانت عن مريض بيعيش مع مرض نفسي طويل الأمد، كان عقله حابسه في عالم مليان بالكوابيس والأوهام.
وده اللي حاولنا نشتغل عليه، إننا نحاول نحرر عقله من الخوف.. الحقيقة إن الخوف اللي أحمد عاش فيه كان نتيجة لاضطراب نفسي، مش لعنة الجبنة، ولا الصرخة، بس كل التفاصيل دي كانت تمثل أوجاعه الداخلية. واللي قدرنا نعمله هو مساعدته إنه يواجه الحاجات دي، عشان يفهم إنه مش مريض بسبب لعنة، لكن بسبب جرح نفسي عميق لسه محتاج يشفى منه.. ولازم يحرر نفسه من عقدة الإحساس بالذنب..
وأنا شايف كطبيب إن صحته النفسية بتتحسن بخطوات كويسة، يمكن بطيئة بس التحسن في حد ذاته شيء ممتاز، لأن معظم الحالات اللي زي كده مستحيل تتحسن نهائي، وفي آخر جلسة اتكلم معايا باستفاضة وده كلامه كالآتي:
قصتي خلصت هنا يا دكتور، ماكنتش أتوقع إنها تنتهي هنا، أنا زمان افتكرت إن الحياة وردية، وإن النهايات بتتعاش زي أي نهاية سعيدة في أي فيلم أو مسلسل، بس لأ. مش كل حاجة بتحصل زي ما بنتوقع.
في الواقع ما فيش حاجة زي ما بنفكر فيها. الدنيا ما بتديش حد كل حاجة أبدًا.. كل حاجة بتتغير في لحظة، ممكن حاجة صغيرة تقلب الدنيا وتخلي كل اللي كنت شايفه واضح يتشوش فجأة.. وتاخد منك أكتر بكتير من اللي ادتهولك.
أنت عارف يا دكتور، في البداية كنت حاسس إن في قوة خارقة بتلعب بيا، وفي الآخر اكتشفت إني كنت أنا اللي بلعب بعقلي وبنفسي. وتخيل إنها تطلع كلها مجرد أوهام.. أوهام كبيرة زي ما أنت بتقول
بعد كل الحكايات اللي حكيتها، كل الأسرار اللي اكتشفتها، كانت النهاية هي إنّي لقيت نفسي لوحدي، خايف من كل حاجة، مش عارف أنا مين، ولا إيه اللي جابني هنا.. الخوف مثلاً، الهروب من نفسي، ادراكي إني لازم أتعالج.. مش عارف.. حتى لما كنت فاكر إني ههرب من الواقع، اللي كنت هربت منه كان جوايا.. لكن في الآخر كان لازم أبقى هنا.
بس أعتقد إني اخترت صح.. المكان هنا هادي، آه مش هادي أوي عشان أقدر أقول إني مرتاح، بس برضه مش زحمة لدرجة إنك تحس إنك مش لوحدك.. المكان ده زي زنزانة، بس براح أكتر. مصحة نفسية. والناس اللي فيها مش كلهم زي اللي بتشوفهم في الأفلام، مش كلهم مجانين. في منهم اللي زيي، جايين من معركة مع أنفسهم..
أنا مش قادر أعبر عن كل كلمة جوايا، بس أكيد أنت عارف كل حاجة عني، لسه في حاجات جوه دماغي معقدة، مش عايز أفكر فيها دلوقتي.
يا ترى هعيش باقي حياتي هنا ولا ممكن أخرج؟
طيب لو خرجت من هنا هل هعرف أعيش طبيعي؟
مش عارف حتى لو خرجت وعيشت طبيعي هروح فين، هبقى مين؟ مش واثق في نفسي ولا في أي حاجة، كل حاجه بتدور في دوامة. دا لو طلعت يعني. مش عارف ليه الناس كلها فاكرة إني مش قادر أرجع زي الأول، بس اللي هما مش فاهمينه إني مش عايز أرجع زي الأول.
وبعد ما أحمد خلص كلامه ده رديت عليه وقولت له:
ـ ماتجهدش نفسك بالتفكير في كل ده دلوقتي، أنت هنا في مكان يوفر لك فرصة كبيرة عشان تتعافى. الحياة مش هتكون سهلة، ولا كانت ولا هتبقى، لكن لو بدأت تشوف الأمور بشكل مختلف، تقدر تخرج من هنا. المهم إنك تبدأ من جواك.. تبدأ صفحة جديدة مع نفسك.
أحمد رد عليا وقال لي:
ـ المشكلة عمرها ما كانت من بره، المشكلة جوايا. لو كانت الدنيا بتتصلح من بره، كان زمانها اتصلحت من زمان.. السبب الحقيقي لكل حاجة هو اللي في دماغي، اللي في قلبي، كله مش مظبوط. وده اللى مخليني خايف. خايف أخرج وأواجه نفسي في العالم اللي برا. خايف من اللحظة اللي هبص فيها في المراية وأشوف شكلي بعد كل السنين دي، أنا بقيت مرتاح هنا أكتر.
ساعتها اديته مهدأ وخرجت وقولت له هعدي عليك مرة تانية.. وكلامه ده فعلاً خطوة ناحية الإدراك والتعافي.. وطبيعي يفضل محتفظ بالخوف أو يشوفه في شكل جديد لأننا منعنا عنه الجبنة تماماً..
ومش كل المرض النفسي ليه نهاية واحدة، أو دواء بياخدوا المريض فبيخف، في الحقيقة إن ممكن مايبقاش في نهاية من الأساس، ولا في خلاص تام..
لكن كلنا بنعيش بأمل، وبنواجه ضغوط نفسية ومشاكل داخلية. حتى لو في لحظة حسينا إننا غرقنا، لسه في فرصة. لسه في أمل.. ولولا الأمل ماكناش كلنا نقدر نعيش ونكمل حياتنا.
يمكن أحمد مايقدرش يخرج من المصحة دلوقتي، لكن لسه في فرصة. فرصة إنه على الأقل يحاول يبدأ من جديد حياة جديدة، وكل ما يوقع يقوم ويحاول تاني، وكل ما أحس إن طريقة العلاج مش نافعة ووقعت أنا كمان هقوم وأحاول تاني.. وأكيد مش هتكون النهاية.
تمت.