قصة صيدة بهراق
الحنين إلى الماضي، ذلك ما يعاني منه اللواء المتقاعد (سيف نصر الله)، يفتقد ذكريات عمله طيلة السنين الماضية وكيف قضاها بحب وإخلاص وعطاء لعمله، يراوده هذا الشعور كثيرًا، يقف أمام ميدالياته وجوائزه ليغرق في ذكرياته التي لا تفارقه يومًا.
لقد شعر أن الوقت قد حان ليجدد طاقته، رحلات الصيد التي يقوم بها هي مصدر تجديد طاقته وبث الإيجابية في روحه، هي الآن الشيء الوحيد الذي يتلذذ بشدة أثناء القيام به، بغض النظر عن أن تلك الرحلة هي الأولى بعد موت كلبه الذي اصطحبه في معظم رحلاته، إلا أنه قد عزم على القيام بتلك الرحلة حتى يخرج من مزاجه السيء خصوصًا أننا تخطينا شهر نوفمبر، بداية موسم الصيد، فكان القرار.
بالقرب من منطقة (كينج مريوط) بالأسكندرية وتحديًدا بجوار بركة نبتت حولها أعشاب طويلة، أوقف سيارته، يعلم مدى صعوبة القيام برحلة صيد بمفرده إلا أن المتعة ستنسيه كل شيء، أعد عُدته وألقى بما يُسمى بالـ(خيالات) وهي عبارة عن تماثيل تشبه نوع البط الذي يهبط على تلك البركة، اتخذ مكانه وجهز بندقيته وجلس ينظر موعد قدوم البط.
أثناء تركيزه الشديد التقطت آذانه صوت البط، هيأ نفسه منتظرًا إياه، فإذ بطائر أسود غريب يحلق في الهواء مصدرًا صوت غريب تجاهه، رفع بندقيته، ضاقت عينيه، صوب فأطلق النار، براعته كفاية لإصابة هدفه من طلقة واحدة، لم يكترث للبط المحلق في السماء، بل ذهب ليتفقد هوية الطائر الذي اصطاده من تلك المسافة بعيدة.
اقتحم بعض الأعشاب ليصل لمكان الطير لكنه فوجئ بمعركة تحدث الآن أمام عينيه، كيف بذئب وكلب أن يأتيا لمثل هذا المكان، بل إنهما يتقاتلان أو تحديدًا يكاد الذئب أن يفتك بالكلب، دون تفكير وجه البندقية تجاه الذئب وأطلق، لم تصبه الطلقة ولكنها أدت الغرض، ولى الذئب هاربًا بينما اتجه اللواء (سيف) إلى الكلب الجريح، كم يحب تلك الفصيلة من الكلاب، كيف أتى إلى هنا، لم يعط اهتمامًا لتلك الأسئلة، قرر أن يتبنى الكلب ويتولى رعايته ومن الآن فصاعدًا هو صديقه الجديد.
ترك الكلب مكانه عندما تذكر صيده، مشى بعض الخطوات حتى يرى جثة الطيرا إنه غراب، ليس بحجم الغربان الطبيعية، يمتلك منقار أطول قليلًا، حتى أرجله قصيرة للغاية، تعجب (سيف) لأمر هذا الغراب، قرر أن ينهي تلك الرحلة ويأخذ صديقه الجديد ليطببه ويرعاه لأنه في حالة لا يُحسد عليها.
قصة صيدة بهراق
بعد أن انتهى من أمر كلبه عاد به إلى المنزل ليحصل الاثنين على قسطٍ من الراحة، مضى الوقت وحل الليل بظلمته و(سيف) في أشد الاحتياج إلى النوم، استلقى على سريره واستسلم لنعاسه.
قبل الفجر بقليل استيقظ على صوت نعيق الغربان، نظر إلى ساعته، مازال الوقت متأخر على استيقاظ الغربان وحتى إن استيقظت، لماذا تتكدس حول المنزل، نهض من فراشه بأعين مرهقة ليجد كلبه مذعورًا بسبب الصوت المزعج التي تسببه تلك الغربان الحمقاء، فتح نافذة الغرفة ولم يجد أية غربان في المحيط، فرك عينيه بسبب الصداع، تغلق النفاذة وعاد ليكمل نومه.
بعد ثلاثة أيام
انقطعت الكهرباء، تسلل إلى أذنيه صوت شيء ما في صالة المنزل، مشى في الظلام كأن الكهرباء لم تنقطع أصلًا، على الأرضية شرعت كتلة من النار في الظهور، ازداد حجمها وضوئها ليكشف عما حولها، سبعة مخلوقات أقرب إلى البشر، شديدي النحافة، بشرتهم أسود من اللون الأسون أن أُتيح لنا التعبير، متسعي الفم بشكل مُبالغ فيه، أسنانهم ناصعة البياض بالإضافة لأعينهم الواسعة، أخذوا يتراقصون ويدورون حول النار بطريقة غريبة، لم يلاحظ أن أحدهم يمسك بطائر يعرفه جيدًا، إنه ذاك الطائر الذي اصطاده في آخر رحلة.
أثناء دورانهم ألقى بالطائر في النار لتتضخم وتزداد اشتعالًا وتلتهم كُل من حولها، من داخل النيران رأى شخص مُقيد بأغلال على كرسي حديدي أسود غريب الشكل، يشبه هو أيضًا البشر عدا عيناه الضيقتين، أعلى دماغه مليء بالرءوس المدببة، كُل هذا وهو في ذهول وشلل، لا يملك إرادته، بدأ يشعر باختناق شديد، سقط أرضًا ولم يعد يرى سوى النار ويشتم رائحة الدخان العنيفة، استيقظ مفزوعًا من نومه غارقًا في العرق، ينهج ويشعر بصداع يهاجم رأسه، تجرع بعض الماء من الزجاجة الموضوعة على الكومود ثم استلقى مرة أخرى من شدة التعب.
بعد يوم الحلم بأسبوع
بعد تفكير يومين عزم أخيرًا على ما يفكر به، قرر أن يقوم برحلة صيد جديدة ليجدد طاقته خصوصًا لشعوره بالضعف وأن وزنه تناقص بشكل ملحوظ طيلة الأيام الماضية، إنه الآن في أشد الاحتياج لتلك الرحلة، الغريب في الأمر أنه أيضًا قرر العودة للمكان الذي ذهب إليه في الرحلة الأخيرة، جهز حقيبته وكلبه الجديد وارتدى ملابس الصيد ثم استقل سيارته ومضى في طريقه.
***
وصل وفعل الشيء المعتاد نفسه، أعد عدته وقام بتعمير بندقيته وجلس برفقة كلبه يُراقب الوضع حتى يأتي البط، أثناء جلوسه في وضع الاستعداد التقطت أذنيه صوت أشبه بالزئير الخفيف بمجرد أن استدار رأى ذئب يتوجه بسرعة ناحيته، بل عشرات الذئاب آتية لتأكله.
تفاجئ عندمت تخطته الذئاب واتجهت للكلب، وجه اللواء (سيف) بندقيته نحوهم وكاد يطلق لكن رفض زناد البندقية أن يستجب له.
بأنيابها الحادة وبكل ما أوتيت من قوة هاجمت الذئاب الكلب المسكين حتى قتلته، لم تكتفي بذلك، بل أرادت أن تجعله أشلاء صغيرة، اغتاظ سيف وتدخل في الأمر، اخذ يضرب الذئاب بدبشك بندقيته حتى تمكن من الكلب، أخذ جثته وبسرعة ركب سيارته ليهرب من هذا المكان اللعين.
***
عاد لمنزله ومعه جثة كلبه المسكين، هل سيعود مرة أخرى لوحدته، ظلت تطارده بعض الأفكار حتى هرب منها بمجرد سماعه لطرقات باب الشقة، فتح باب الشقة ليجد أمامه شيخًا أبيض البشرة وحسن المظهر، لحيته وجلبابه يتنافسان أيتهما أشد بياضًا من الأخرى، نظر إليه الشيخ بابتسامة:
-أزيك يا سيف، هتسيبني واقف على الباب كدا برضه
باستغراب رد سيف:
-عدم اللامؤاخذة، بس أنت مين يا عمنا
-دخلني بس وأنت هتفهم كل حاجة
سمح له بالدخول، دخل الشيخ ليجلس في الصالة لينتظر سيف، لم تختف ملامح الاستغراب والدهشة من وجه سيف، جلس أمامه وبدأ الحديث:
-خير بقى ياعم الشيخ
أخرج الشيخ سبحة من جيبه وبدأ في حديثه:
-أنا مش هعمل مقدمات كتير لأن وقتي مش ملكي خالص، مبدأيًا أنا مش شيخ خالص أنا اسمي (سامربن براخميت).
رفع يده تجاه (سيف):
قبل ما تقاطعني، استنى لما أخلص، أنت من فترة جيت تصطاد والدنيا كانت كويسة معاك، لقيت غراب قمت صايده، أو بمعنى تاني قتلته، أحب أقول لك أنك قتلت واحد واحد من أبناء الجن وقتلك ليه كان هيفتح بوابة الجن الأسود اللي اتقفلت من سنين أنت ماتقدرش تعدها.
خليني أفهمك أكتر، أنا من كبراء ملوك نوع من الجان محدش يعرفه، تقدر تقول مزيج مابين الجن الضوئي والجن القمري أنا وعشيرتي معانا معظم مفاتيح السحر الأبيض وكلنا مسلمين، من زمان أوي قبيلتي اتعاونت مع كذا قبيلة من الجن ووحدنا قوتنا عشان نقدر نغلب أخبث أنواع المردة والعفاريت من الجن وهم الجن الأسود وانتهت الحرب زمان بفوزنا وقفلنا عليهم بوابة سمينها بوابة الجن الأسود.
ملك الجن الأسود (بهراق البربري) هو الوحيد اللي هرب وعشان نوصل له مافيش غير طريقة واحدة، واحد من قبيلتنا يتختم بختم معين ونقرأ عليه حاجات معينة هتخليه يقدر يوصل له ويسجنه ولكن بشرط أنه مايفرقوش ويتسجن معاه وميتواصلش مع حد فينا وهنتمنع من قتله إلا في حالة الهرب، اتفقنا كلنا على كدا وكان الأمر.
اللي معملناش حسابه أن فيه حاجة ممكن تخلي (بهراق) يهرب ويرجع تاني وهي أن حد من نفس قبيلته يتقتل على أيد أي مخلوق في سبيل تحريره ولحسن حظه كان فيه واحد كمان هربان، كل شغلته هي أنه يدورعلى حد مناسب ومكان مناسب للتنفيذ لحد ما وصل لقرينك واستجوبه وعرف منه كل حاجة عنك.
يوم الرحلة تجسد لك على هيئة الغراب الغريب وخلاك تقتله، بعد كل السنين دي قدر (بهراق) يهرب بس ابننا ماسبهوش، قبل ما يقتله أنت تدخلت، أصل (بهراق) هو الكلب الميت اللي مرمي هناك ده، وابننا هو الذئب اللي كنت هتقتله في الأول خالص.
أثناء ذلك الحديث فتح سيف فمه حتى سال منه اللعاب، مُحي كل الكلام الذي يعرفه، لم يستطع النطق بكلمة، ضحك (سامر) واستكمل كلامه:
طول الفترة اللي فاتت وجوده معاك في البيت كفيل يقتلك، حتى شكلك اتغير يا جدع، المهم إننا مقدرناش نوصله طول الفترة دي لأنه محصن بيتك كويس مننا، بس أنت اللي جبته عندنا والمرة دي عملنا حسابنا كويس، حد مننا مسك بندقيتك عشان ماتضربناش بيها وإحنا بنقتله، بس لازم الموضوع يخلص خالص اعذرني بقى في اللي هيحصل، ادخلوا يا ولاد.
دخل العديد من الذئاب من باب الشقة الذي فُتح تلقائيًا مُتجهين لجثة الكلب، وقف ( سامر) ناظرًا لـ(سيف)، الجثة دي تلزمنا، حاول تسافر أي مكان تهدي أعصابك كويس، أنت كنت رايح تصطاد بس هو اللي اصطادك، بعد كدا أبقى ركز في البط.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قصة صيدة بهراق
كتابة وتأليف: محمد عبد القادر
غلاف: محمد عبد القادر
قصة صيدة بهراق