الحب لا يكفي
الخامس عشر
لم تشعر سهى بمرور الوقت الذي قضته بالداخل حتى وجدت ذراعى الممرضة تحيطانها بإشفاق، اختطفت نظرة لها وعادت عينيها تهرول نحو محياه وقلبها ينبض بقوة رفضا وهى تعلم أنها على وشك المغادرة
_ كفاية كده انت معاه من بدرى
عادت عينيها المحملة بالرجاء إلى الممرضة
_ خلينى معاه كمان شوية مش هو سامعنى؟
_ ايوه سامعك
بدأت زخات الحزن تهطل من عينيها وهى تلومه برفق
_ انا كنت عارفة انك سامع بس مش مصدقة انك مش راضي ترد عليا، كده يا عثمان تكسر خاطرى!
تنهدت الممرضة بحزن سرعان ما زال وهى تسمع صوت الجهاز الذي اختلفت لترفع عينيها نحو الشاشة لتتأكد مما سمعت، رأت اختلافاً بالفعل لتتابع فحص الأجهزة بينما شعرت سهى بالفزع
_ جرى ايه انت بتعملى إيه؟
ابتسمت الممرضة برضا وهى تشير نحو عثمان
_ بيرد عليكى
اتسعت عينا سهى معبرة عن الصدمة بينما تابعت الممرضة
_ مااعرفش كلامك أثر فيه ولا ده عادى بس دقات قلبه زادت ورجعت للمعدل الطبيعى عموما انا هبلغ الدكتور باللى حصل بس اتفضلى معايا النهار فات وانت واقفة هنا.
انعقد حاجبيها وهى تترك قيادة خطواتها لها مجددا
_ النهار فات؟ ليه إحنا امته؟
_ داخلين على المغرب
ألقت نظرة أخيرة والممرضة تغلق الباب ليختفى عن عينيها وتسحبها بعيدا عن الغرفة .
عادت تجلس بجوار عمها لكن أمها كانت بالقرب وهى حتى الآن منذ زواجها تتهرب منها، كانت تراها جائرة على حقها في الإختيار وكلما مر الوقت تأكدت من أنها كذلك.
بعد قليل طلب الطبيب رؤية عمها لتبقى هى وامها التى انتقلت بهدوء لتجلس بالقرب منها مع سواد الصمت للحظات حتى تساءلت
_ انت لسه زعلانة منى؟ انا كنت عاوزة مصلحتك
نظرت نحو أمها دون أن تحاول اخفاء غضبها
_ وانا كنت عاوزة مساعدتك، زمان بعدتينى عن عثمان يمكن لو كنا كبرنا مع بعض ماكنش ده بقى مصيرنا، انت عاوزة المصلحة اللى انت شيفاها مش اللى أنا شيفاها
_ يعنى إيه انت لسه رافضة عثمان؟
لم يكن تساؤل هنية بمفاجئ لها بل متوقع تماماً ورغم ذلك تهكمت ملامحها وهى تتساءل
_ ماما انت كنت عاوزة مصلحتى ولا مصلحة عثمان؟ تعرفى المشكلة فين! انك طول عمري مش واخدة بالك أنى بغير من عثمان، مش لأنه احسن منى ولا بياخد حقى غصب عني لا علشان انت بتحبيه اكتر منى ومن سارة، مش ذنبنا يا ماما انك ماتخلفيش ولد! ولا مبرر انك تفضليه علينا حتى لو هو ابن عمنا وخالتنا، سارة يمكن الموضوع مايفرقش معاها لكن أنا لا، انت دخلتينى فى صراع بينى وبينى، جزء منى بيغير منه وجزء تانى محتاجه وطبعا الجزء اللى بيتغذى اكتر هو اللى كسب وانت عملتى اللى عليكى وزيادة وزودتى الغيرة جوايا وانا بمنتهى الغباء كنت بحاسب عثمان لأنى ببساطة مااقدرش احاسبك انت .
نهضت تبتعد عن أمها التى لم تتمكن من اللحاق بها أو نفى كل ما واجهتها به فهى داخلها تعلم أنها صادقة تماماً.
………………….
دخل صبرى لغرفة الطبيب الذى حاول رسم ابتسامة لكنه فشل وأشار له بالجلوس ليزداد توجس صبرى وتنمو مخاوفه ويتساءل فوراً
_ فى إيه يا دكتور عثمان جرى له حاجة؟
هز الطبيب رأسه وكفيه وهو لا يعلم كيف سيحمل له هذا الخبر
_ لا أبدا عثمان زى ما هو حالته مستقرة انا مش باعت لحضرتك بخصوص عثمان
رغم شعوره بالراحة إلا أن انعكاس الحزن على ملامح الطبيب دفعه لمتابعة التساؤل
_ طيب حضرتك باعت لى ليه؟
_ بخصوص المدام
توقفت الكلمات فى حلق صبرى الذى غابت عنه هالة منذ الصباح لأول مرة بحياتها دون أن يتفقدها، لقد أثر عليه حادث عثمان بشكل سئ للغاية، لكن ما علاقة الطبيب بها؟
رأى الطبيب عجزه عن التقبل والتجاوز ليتابع
_ الحقيقة هى الممرضة دخلت تطمن عليها وتصحيها تاكل حاجة لقيتها فاقدة الوعي ولأن الظرف اصلا صعب قولنا نفوقها بهدوء ممكن من الصدمة بس جه فى بالى اعمل تحليل ولاقيت السكر عالى جدا يعنى هى كانت فى غيبوبة سكر …
قاطعه صبرى بفزع
_ سكر!! سكر إيه هالة ماعندهاش سكر
أشار له الطبيب ليهدأ وهو يتابع
_ ممكن من الصدمة بس بردو لازم تتابع دكتور هى دلوقتى لسه في أوضة الممرضات ومحدش قال لها حاجة لأن الزعل لوحده وحش على السكر.
انتفض صبرى وعينيه تجوب المكان كأنه يبحث عن دعم لا يجده
_ عاوز اشوفها لو سمحت
دخلت الممرضة ليشير له وأراد أن يخبره أنها ستأخذه إليها لكنه تحرك بالفعل مغادرا لتتبعه هى وتحاول إرشاده مع مراعاة حالة تخبطه المتوقعة.
………..
تقدم للداخل محاولا السيطرة على لهفته ومخاوفه لكن زوجته قرأت بيسر كل ما يحاول اخفاءه ورغم ذلك توجه كل تفكيرها إلى ابنها فورا ليصيب الفزع منها ما ارجف صدرها وبدى فوق ملامحها فورا مع تساؤل غلفته المخاوف
_ فى إيه يا صبرى، عثمان ماله؟
_ عثمان كويس الحمدلله وسهى كانت قاعدة معاه طول النهار
_فاق؟؟
عبر الأمل الذى تتمناه عن نفسه مع سؤالها ليتنهد ويهز رأسه نفيا ثم يتابع
_ بس الدكتور طمنا وقال إنه مستقر، المهم انت دلوقتى عاملة إيه؟
صمتت هالة فحالتها فى هذا الوقت لن ترضى زوجها فهى مفطورة القلب وتعلم أنه كذلك لكنه يقاوم ويبدى للجميع القوة رغم حاجته الشديدة لمن يبثه إياها.
………………
مر بعض الوقت في صمت لترفع هنية وجهها مع صوت حذاء نسائي يدق الأرض برقة لكنها غير معتادة فى المشفى لذا فالقادمة ليست من العاملين ، رأت فتاة أنيقة تعرفت عليها فورا فهى الفتاة نفسها التى زارت ابنتها قبل زفافها ، لطالما كانت ابنتها قليلة العلاقات حتى ارتاحت هى لكون ابنتها فتاة غير اجتماعية وإن كان لها بعض الرفقة فهى تحتفظ بهم بعيدا عن المنزل وهذا يوافق رغبتها الخاصة خوفاً من التأثير الذى قد ينتج عن شدة تداخل العلاقات كما ترى هى
اتجهت الفتاة نحو ابنتها ولمست رأسها برفق لترفع سهى وجهها وسرعان ما استقرت بين ذراعي رفيقتها باكية .
أصاب سهم من الحزن قلب هنية فابنتها بحاجة للدعم ولن تطلبه منها، هل أخطأت بالفعل في حق ابنتها لهذه الدرجة؟
ارهفت السمع وقد ساعدها قرب موضع جلوسها منهما لتسمع تساؤل الفتاة
_ هو عامل ايه دلوقتي يا سهى؟ فاق؟ شوفتيه؟
تحدثت سهى من بين شهقاتها
_ زى ما هو يا وفاء ، شوفته بس مافقش انا خايفة عليه اوى
نهدة متعاطفة وهى تربت فوق رأسها مجددا
_ ماتخافيش يا سهى، خير إن شاء الله
جلست واجلستها بجوارها وبدأت هنية تفقد الحوار بينهما حين تحولت الكلمات إلى همس خافت لكنه توقف مرة أخرى مع ظهور صبرى وهالة التى تستند إلى ذراعه بضعف .
…………..
صحبت وفاء سهى فى طريق العودة إلى المنزل لتفترقا قرب منزل وفاء ثم تتابع سهى طريقها، مرت بالورشة لتأخد اتجاهها بلا تفكير حين رأت بابها مفتوحاً وقد نست تماما أمر أيمن، اقتربت إلى المكان المفضل لقلب عثمان فهى تعلم أن الميكانيكيا ليست له مجرد تخصص بل هى شغف نبت بصدره منذ وقت طويل ولم يحاول إيقافه بل طوره وساعدته الورشة على تنميته تحت إشراف أبيها وأبيه.
وقفت تنظر لقلب الورشة حيث من المفترض سقط عثمان وهى تتخيل مدى الألم الذى شعر به وتنبع التساؤلات من رأسها تلقائيا
لأي مدى شعر بالألم؟
هل شعر بالخوف؟
هل تذكرها حين أصيب؟
هل هو غاضب منها؟
هل هي السبب فيما حدث؟
توقف تدافع تلك التساؤلات مع صوت يسحبها من أفكارها بعيدا متسائلا
_ مدام سهى انت كويسة؟ واقفة هنا ليه؟
نظرت لصاحب الصوت الذى لم يكن سوى أيمن لتجيب بشرود
_ أبدا مفيش حاجة لقيت الباب مفتوح ونسيت أن حضرتك هتشتغل
أجاب أيمن بلا تفكير
_ طبعا لازم اشتغل ، عثمان لما يرجع بالسلامة لازم يلاقى مكانه واقف على رجليه زى ما هو سابه واحسن وإلا مااكونش صاحبه ولا استحق صحبته
نظرت له بدهشة لهذا المنطق الذي ينتهجه عقله، لقد عابت عليه بالأمس التفكير بشأن العمل لكنها فى هذه اللحظة تراه محقا تماما لذا همست بهدوء
_ شكرا يا بشمهندس
تغاضى عن شكرها الذى يراه لا محل له من الواقع وتساءل بقلق
_ تحبى اوصلك البيت؟ شكلك تعبان
هزت رأسها رفضا وهى تتحرك مغادرة
_ لا هروح لوحدى كتر خيرك
لما هى بهذا الهدوء؟
تعجب أيمن داخليا لكنه تجاوز تعجبه فورا وهو يعود للعمل الذى عليه إنجازه اليوم مناديا الفتى الذى ألحقه بالعمل لمعاونته .
………………
وصلت للمنزل حيث السكون البارد الذى يحتل صدرها بمجرد الدخول من الباب أصبحت تضيق بهذا المكان ولا تريد اللجوء لمنزل أبيها الذى خلا منه.
ما بال الأحبة يسارعون في المغادرة!!
تنهدت واتجهت لغرفتها وبعد نصف ساعة كانت مستلقية فوق الفراش تنظر إلى الفراغ كما اعتادت منذ دخلت هذا المنزل لكنها لا تفكر بنفس الطريقة بل تسترجع كل الذكريات التى اقصتها عن واقعها الذى أرادت أن تحيا غيره وتمردت على أركانه ، تنهدت وهى تعود للوراء حيث يومها الجامعى الأول وقد كان عثمان يلتزم بمساحة بعيدة عنها فعليا لكنه ذلك اليوم تخلى عن ذلك .
عودة للوراء…
ارتدت ملابسها باكراً وقد تيقظ والديها لكثرة الصخب الذى أحدثته منذ بزغ النهار وهى تردد أنه يومها الجامعى الأول وأنها أصبحت فتاة لها شأن يجب على الجميع أن يهتم بما تريد .
غادرت الغرفة إلى حيث يجلس أبيها لتدور حول نفسها متسائلة
_ ها يا بابا إيه رأيك؟
حك خيرى ذقنه مدعيا التفكير المطول لتمتعض ملامحها مع ضيق عينيه وهو يجيب
_ الجيبة ضيقة
اتسعت عيناها اعتراضا واسرعت تدافع عن اختيارها بحدة
_ دى ضيقة يا بابا!! هى موضتها كده وانا خسيت علفكرة
ضحك صبرى بينما تهكمت أمها كالعادة
_ وعلشان خسيتى تلبسى ضيق؟ هتمشى بيها ازاى فى الجامعة؟
تحركت سهى بخفة أمامهما
_ همشى كده
ارتفع حاجبا خيري بإعجاب لخفة ابنته وجمالها بينما طرق باب المنزل لتهم أمها إليه
_ ده اكيد عثمان
عقدت سهى ساعديها اعتراضا على وجوده في أهم ايام حياتها حتى الآن وسرعان ما ظهر أمامها مبتسما
_ كويس انك لبستى انا جاى اوصلك النهاردة أول يوم . ده إحنا المفروض نحتفل
الحماس الذى تحدث به هدأ من غضبها الدائم تجاهه فهى تريد أن تشعر بحماس الجميع لخطوتها الجديدة بينما عكرت أمها الأجواء مرة أخرى وهى تشير إلى ملابسها
_ بنقول لها الجيبة ضيقة مش عاجبها
نظر لها عثمان فورا وهز كتفيه بتلقائية
_ مش ضيقة ولا حاجة، سهى خست جامد فى الإجازة كمان
تملك منها الحماس وهو يعيد ما قالته رغم أنه لم يسمعها
_ انا قولت لهم كده مش مصدقين
_ يا حبيبتي انا بس مش عاوز حركتك تتقيد
ابتسمت لأبيها بينما وضح عثمان
_ ماتخافش يا عمى أول حاجة سهى لسه إعدادى يعنى الحركة عادية تانى حاجة لازم تبقى اشيك بنت فى الجامعة ده أول يوم ومش هيرجع تانى بيبقى مرة واحدة بس .
اتسعت ابتسامة هنية وهى تنظر نحو خيري مقتنعة تماماً برأى عثمان وهى تحثه للقبول
_ خلاص بقا يا حج عثمان راح نفس الكلية وعارف عننا
نهض خيري من مكانه ليتجه نحو ابنته مبتسما ومتسائلا بمشاغبة
_ وانت عاوزة تبقى اشيك بنت فى الجامعة ولا اكتر بنت كشرية فى الجامعة؟ فكى عقدة حواجبك دى خلى الدنيا تنور
ابتسمت فوراً وأبيها يفتح ذراعيه ليتلقاها بمودة وحب بينما نظر عثمان إلى ساعته ليحثها على الحركة
_ يلا يا سهى الطريق طويل انا هستناكى فى العربية
عاد لها الحماس وهى تبتعد عن أبيها لتنظر نحوه بلهفة
_ هتوصلنى بعربية؟
ضحك عثمان لتلك الطفولة التى يراها تتحكم في أفعالها
_ طبعا واحسن عربية كمان
اتجهت ركضا نحو غرفتها
_ هجيب شنطتى
جلست بجواره في السيارة التي اعجبت بها كثيرا وهى تتفقدها بلهفة
_ عربية مين دى يا عثمان؟
أجاب عثمان برضا عما يراه من سعادتها
_ دى يا سهى عربية واحد زبون فى الورشة أجرتها منه مخصوص علشان اوصلك النهاردة بعربية احدث موديل
عادت سهى من ذكرياتها وهى تغمض عينيها فهى ذلك اليوم اومأت له ولم تتحدث مرة أخرى إليه بل تشاغلت عنه بالطريق، لم تنتبه إلى أناقته الخاصة أو لاهتمامه بمشاركة أيامها المميزة ومحاولة منحها بعض السعادة لكنها رأت أمامها فقط صورته المغطاة بالشحم والاوساخ داخل الورشة، تلك الصورة التي كانت تراها كل يوم منذ عهد بعيد وتصر على المرور كل يوم من أمام الورشة ورؤيتها مجددا.
…………..
استلقت وفاء بفراشها بعد أن خلدت أمها للنوم، تحاول دفع أمها للتخلى عن عملها كمدرسة وتسوية معاشها فقد عانت كثيرا في تنشئتها وشقيقتيها لكن أمها ترفض هذا فهى ستصل لسن المعاش بعد عامين فقط وتخشى أن يصيبها السأم بعد المعاش فقد اعتادت الخروج للعمل ولقاء الزميلات والترفيه عن نفسها بأحاديثهن كما أن عملها قد وفر لها ولهن حياة كريمة .
دق هاتف وفاء لتنظر إلى الساعة أولا لقد تجاوزت العاشرة ليلاً !
امتد كفها ليلتقط الهاتف لتزيد دهشتها وهى ترى رقم محسن يزينه لتجيب بدهشة تلقائية
_ السلام عليكم، خير يا محسن؟
_ ازيك يا وفاء؟ ابدا انا بس فاضى قولت اتكلم معاكى شوية
إلتقى حاجبيها برفض لما سمعته، هى ترفض أن تكون وسيلة للترفية أو لقتل وقته لذا أجابت بحدة
_ وماسألتش نفسك نتكلم مع بعض في الموبايل بالليل بصفة إيه؟ بلاش انت متخيل انى ممكن ارغى معاك في الموبايل علشان بس حضرتك فاضى! تبقى امى نايمة جوة ومطمنة انى نايمة وانا بسلى سيادتك؟ آسفة يا محسن مكالمتك ليا مرفوضة
وانهت المحادثة دون أن تنتظر سماع صوته فهى بالفعل غاضبة منه بشدة لمحاولته تحويلها إلى فتاة ليست عليها، رأته طفلا متحكما وهذا أمر واضح لها لكنها لن تكون إحدى الدمى التى يمكنه أن يلعب بها ثم ينتهي بها الأمر فى كومة ذكرياته النافقة