خرج الطبيب من الحجرة فسارعت كل من الخالة نبيلة وابنتها صفية إليه تسأله الأولى عن حالة سعاد ليقول: للأسف جسم المريضة مبقاش متقبل العلاج نهائي وده أدى لإنهياره بالشكل ده، أنا مستغرب من اللي بيحصل. آخر تحليل عملناه كان فيه نسبة تحسن، صحيح بسيطة لكنها كانت مبشرة، دلوقتي الحالة مش بس تراجعت لأ وأصبحت كمان خطيرة لإن الجسم رافض العلاج وكأن المريضة فقدت الأمل في الحياة وأصبح معندهاش رغبة تعيش.
انها الصدمة في زوجها السابق وخذلانها اللذان جعلاها تفقد الأمل وتتمنى الموت أيها الطبيب.
فكرت نبيلة قبل أن تقول بهلع: طب والعمل يادكتور؟
مفيش قدامنا غير اللجوء لحل أخير.
وإيه هو الحل الأخير ده؟
زرع نخاع عضم.
يعني ايه الكلام ده؟
يعني هنبدل نخاع العضم التالف للمريض بخلايا جذعية سليمة تنتج جميع انواع خلايا الجسم المختلفة.
فغرت نبيلة فمها قائلة: ها!
الحقيقة أنا فهمت المريضة قبل كدة وكمان الآنسة صفية لما جت معاها ان ده الحل الوحيد قدامنا في حالة عدم استجابة المريضة للعلاج الكيميائي وان العملية بتكون نتايجها أفضل لو كان المتبرع قريب للمريض من الدرجة الأولى يعني من أخ ليها او أخت لزيادة نسبة تطابق الأنسجة، ده غير انها بتعتمد برضه على نوع المريض وعمره وحالته المرضية. الآنسة صفية لما عرفت عملت الفحوصات اللازمة عشان نعرف اذا كانت مطابقة للمريضة ولكن للأسف مطابقتش.
نظرت نبيلة إلى إبنتها التي أطرقت برأسها في حزن قبل أن تنظر إلى الطبيب قائلة: طب وأنا يادكتور؟ مينفعش اتبرعلها باللي انت قلت عليه ده؟
لأ طبعا ياست نبيلة مرض حضرتك يمنع أكيد عملية بالخطورة دي.
وهتعمل ايه بس الغلبانة اللي راقدة جوة؟
هز الطبيب كتفيه قائلا: هتدوري في محيط قرايبكم على متبرع لعل وعسى حد فيهم تكون أنسجته مطابقة.
قالت صفية بحسرة: وهو فاضل في العيلة حد غيرنا؟
ظهر التفكير على وجه نبيلة بينما استأذن منهم الطبيب وذهب، لتقول صفية بمرارة: مش لو كان عمي محمود الله يرحمه خلف كمان، كنا لقينا للغلبانة دي أخ ولا أخت يتبرعلها بنخاع العضم ده؟ ماما. ياماما انت روحتي فين بس؟
ها. بفكر ياصفية. فيه حاجة كدة في دماغي، أمل بس خايفة يخيب.
قطبت صفية جبينها في حيرة قائلة: قصدك إيه ياماما؟ انا مش فاهمة حاجة.
تعالي معايا وأنا أفهمك.
مشت جوارها تقول بحيرة: رايحين على فين؟
رايحين ندور على آخر أمل لهند في الحياة. ادعي ربنا ياصفية ان الأمل ده ميخيبش والا هبقى فتحت علينا باب جهنم على الفاضي.
ازدادت حيرة صفية ولكنها تبعت أمها دون كلمة، تأمل أن توضح لها مقصدها وتبتهل إلى الله أن لا يخيب هذا الأمل كما طلبت منها والدتها وإلا فقدت هند. إلى الأبد.
أخبرتها الخادمة بوجود سيدة لدي الباب تدعي نبيلة منصور تود رؤيتها. قطبت السيدة منيرة حاجبيها. لا يمكن أن تكون هي نبيلة التي تعرفها. ليس بعد كل هذه السنوات. منحت الخادمة الإذن بإدخال السيدة إليها ففعلت وما إن رأت نبيلة حتى تأكدت من ظنونها. هي بالفعل نبيلة التي تعرفها، منحتها السنوات بعض النضوج وبعض تجاعيد في الوجه ولكنها أبقت على جمال و طيبة ملامحها التي بدت متجهمة الآن على غير العادة نقلت بصرها بينها وبين هذه الفتاة التي تشبهها إلى حد كبير قبل أن تركز مقلتيها على نبيلة قائلة: ازيك يانبيلة. خير ياحبيبتي. إيه اللي فكرك بينا بعد السنين دي كلها؟
طالعتها نبيلة قائلة بحزن: أنا عمري مانسيتكم يامنيرة هانم، كنت دايما متابعاكم من بعيد لبعيد. بس مكنتش أتصور اني في يوم من الأيام هدق بابك، الشديد القوي اللي خلاني أعمل كدة.
قطبت منيرة جبينها قائلة: خير يانبيلة فيه ايه؟ ماتنطقي علطول.
أنا محتاجة أشوف خالد وأتكلم معاه. ضروري ياهانم.
لتتسع عينا منيرة بصدمة.
انت بتهزري يانبيلة؟ عايزانى أقول لخالد اني مش أمه الحقيقية ولا صادق جوزي الله يرحمه يبقى أبوه، عايزانى أكسر قلبه بإيدي وأقوله انه نتيجة غلطة غلطتها أمه زمان ومقدرتش تتحمل نتيجتها فباعتك ليا. مستحيل طبعا.
عقدت نبيلة حاجبيها قائلة بغضب: المستحيل اني أفضل ساكتة ياست منيرة وفي ايدي أنقذ بنت بريئة من الموت، وبعدين محاسن أختي مباعتش ضناها ومغلطتش ياست منيرة. كان مكتوب كتابها على جمال جارنا، استعجلوا صحيح بس كان فرحهم باقي عليه كام يوم، كان فاضل بس أسبوع ويرجع من الجيش ويتجوزها بس منهم لله الإرهابيين بقى. هجموا على المعسكر وفجروه ومات هو وزمايله شهدا الواجب وفضلت هي ياعيني عايشة في صدمة موته لحد ماعرفنا انها حامل، سافرنا اسكندرية عند الست والدتك الله يرحمها ماهي قريبتنا من بعيد لكن دايما كانت تودنا وهناك زي ماانت عارفة كملت فترة حملها ولما آن ميعادها وولدت عانت من الولادة وفضلت غايبة عن الوعي ووقتها طلبت مني والدتك إن أديكي الطفل تربيه لأنك لا مؤاخذة يعني مبتخلفيش، وعشان مستقبل اختي وافقت ولما فاقت قلنالها ان الطفل مات، بإيدي كنت بصدمها للمرة التانية بس كله عشان مصلحتها، كنت عارفة ان محمود ابن خالتنا بيحبها وهيتجوزها رغم انه عرف باللي حصل بس كنت برضه متأكدة انه مش هيقبل يربي ابن اللي فضلته عليه فوافقت اني أجرحها لكن ربنا اللي عالم اني كان قصدي مصلحتها، ومن ساعتها وانا كل مابقدر كنت بسافر عشان أطمن على هالد لغاية ماعرفت انكوا نقلتوا هنا القاهرة بعد وفاة الوالدة وده طبعا سهلي شوفته. كتير فكرت أقول لمحاسن وخصوصا بعد ماشالت الرحم لما خلفت هند، وكمان بعد جوزها ما مات بس خوفي تزعل مني وتقاطعني وقفني. وخوفي خالد ينصدم برضه وقفني لحد النهاردة.
وليه جاية النهاردة عايزة تكشفي المستور وتصحى الماضي يانبيلة؟ لو محتاجة فلوس قوليلي وانا أديكي اللي انت عايزاه.
قالت نبيلة مستنكرة: فلوس إيه؟ مستورة ياهانم. انا مش جاية عشان فلوس انا جاية عشان هند أخت خالد محتاجاه وهو لازم يقف جنبها.
هند أختي؟ انت بتقولي ايه ياست انت؟
استداروا جميعا يطالعوا صاحب الصوت، تطلعت إليه صفية بفضول. كان شابا وسيما عيونه في لون الدخان تماما كلون عيون أخته، ورثاها عن خالتها بكل تأكيد بينما اختلف لون شعر خالد الأسود عن شعر هند الذي يميل للاصفرار، كان يطالعهم بغضب بينما تطالعه والدتها بحنان وتطالعه السيدة منيرة بهلع لتقول والدتها: بقول اللي كان لازم أقوله من زمان. هند تبقى فعلا أختك ومحتاجاك.
نقل بصره بين والدته التي أطرقت رأسها بحزن ثم عاد بعينيه إلى نبيلة قائلا بصدمة: انت قصدك إيه؟ ماما ليها بنت انا معرفش عنها حاجة؟
قالت بحزم: فعلا ياابني بس مامتك تبقى أختي. محاسن منصور. مش الست منيرة اللي ربتك.
لتتسع عينا خالد بقوة.
رأته يقبض بيده على هذا الكرسي أمامه يشحب وجهه بينما تعيد والدتها على مسامعه ماأخبرتها به في طريقها إلى هنا، لا تدري لماذا تشفق عليه الآن مما يسمعه، تود لو كان هناك حل آخر بأيديهم أفضل من كشف أسرار الماضي وتحطيم حياة هذا الشاب أمامهم حين يدرك أنه كان يعيش كذبة كبيرة، وجدته يطرق برأسه لبعض الوقت قبل أن يرفع عيناه إلى والدتها وهو ينهض قائلا في جمود: حتى لو اللي بتقوليه صحيح فأنا آسف مش مستعد اتقبل الحقيقة دي ولا يكون ليا صلة بناس اتخلوا عني بسهولة كدة وافتكروني بس لما احتاجولي.
قالت نبيلة بهلع: لا ياابني أمك مكنتش تعرف انك…
قاطعها قائلا بقسوة: قلتلك مش عايز أسمع أي حاجة عنها ولا يكون ليا أي صلة بحد فيكم، من فضلك اطلعي برة ومش عايز أشوف وشك هنا تاني.
اتسعت عيناها بألم واغروقت بالدموع بينما قالت منيرة برجاء: خالد ميصحش…
قاطعها قائلا: من فضلك ياماما، متدخليش. عايزة تدافعي عنها وهي جاية تدمر حياتك بإيدها. آسف. انتهى الكلام. لسة واقفة هنا بتعملي ايه ياست نبيلة؟ قلتلك اطلعي برة.
نكست نبيلة رأسها تجر خطواتها للخارج تتبعها صفية التي ترددت للحظات قبل أن تتوقف وتعود إليه قائلة بألم حازم: والدتي كان مستحيل تيجي هنا وتكسر قلبك بالشكل ده لو مكنتش مسألة حياة او موت. هي جت النهاردة مش طالبة أكتر من انسانيتك. حتى ياسيدي لو مش من لحمك ودمك. فدى إنسانة خلاص بين ايدين ربنا مستسلمة للموت وفي ايدك بس نجاتها منه بعد مااستسلمت ليه. انت متعرفش هند. متعرفش قد ايه هي واحدة طيبة مأذتش حد في حياتها بس أقرب الناس ليها أذوها، شافت كتير ياقلبي. أبوها مات وهي لسة مكملتش 3 سنين وأمها ماتت وهي عندها خمس سنين. خدناها في حضننا وبقت بالنسبة لي الأخت اللي أمي مجابتهاليش، ولما كبرت واتجوزت حماتها أذيتها كتير بس كانت دايما بتعاملها بالحسنى لأنها ملاك مبقاش موجود منها كتير على الأرض، ولما جالها المرض اللي بيقضي على حياتها جوزها الندل اتخلى عنها وسابها للموت ودلوقتي حتى اخوها بيتخلي عنها وكأن الملايكة مش لازم يعيشوا على الأرض. عايز تسيبها تموت اتفضل بس انا مش هسامحك أبدا ولا ربنا هيسامحك وعيش بذنبها لو تقدر.
كان يطالعها بوجه جامد الملامح ولكنها تدرك تأثره من خلال اختلاج عضلات فكه، طالعته بنظرة أخيرة حملت عتاب أليم قبل أن تستدير وتجري لتلحق أمها، تصدعت ملامحه الجامدة وظهر عليه الألم، نهضت منيرة تتجه إليه وتضع يدها على كتفه فانتفض يطالعها للحظات بعيون زائغة قبل أن يسرع هاربا من أمامها إلى حجرته، يغلق بابها عليه قبل أن ينخرط في بكاء حاد.
ممكن أعرف قافل عليك الأوضة وعامل في نفسك كدة ليه؟
طالعه خالد بملامح جامدة وهو يقول: من فضلك ياأدهم أنا مش عايز أشوف حد دلوقت.
اقترب منه أدهم يمسك كتفيه يهزه بقوة قائلا: انت ايه مشكلتك ماتفهمني؟ ايه يعني طلعت فجأة مش ابن الناس اللي ربوك؟ ايه يعني اكتشفت انك ابن ناس تانيين. هتفرق في ايه يعني؟ ده هيقلل منك؟ لأ طبعا. خالد اللي الكل يشهد بأخلاقه. اللي الكل بيحبه. خالد الصاحب الجدع ورجل الأعمال الناجح ميعيبوش أصله. وأصلك ست عمرها مااتخلت عنك. كانت ضحية، ووالدتك؟ الست اللي ربتك وتعبت عليك واديتك من حنانها طول السنين اللي فاتت دي ذنبها ايه تسيبها في الحالة دي؟ دموعها مابتخلصش وانت رافض تسمعها أو تسمحلها تقرب منك. جرالك ايه ياخالد؟
نفض عنه يد أدهم قائلا بمرارة: بتلومني مش كدة؟ جرب تعيش كدبة كبيرة فجأة تلاقيها سراب، جرب احساس انك تكتشف فجأة ان ليك أم ماتت من غير ماتشوفها واخت متعرفش عنها حاجة وانت تعرف انا حاسس بإيه دلوقت.
طالعه أدهم بعتاب قائلا: بس ليك أم عايشة هتموتها بحالتك دي. والأخت اللي بتتكلم عنها محتاجالك ياخالد. كل لحظة بتضيعها ممكن تكون آخر لحظة ليها.
ليتنهد قائلا: مش ممكن تكون خالد اللي عرفته طول حياتي. اللي كان بيساعد الغريب قبل القريب، دلوقتي لما أخته احتاجته اتخلى عنها عشان كلام تافه وملوش أي لازمة.
ظهر الصراع على وجه خالد وهو يقول: انا متخليتش عن حد. انا. انا…
انت ايه ها؟ مجروح؟ الوقت قدامك هيداوي جرحك ويطيبه وبسهولة جدا طول ماحواليك ناس بتحبك وواقفة جنبك، لكن أختك دي مقدمهاش وقت. مابين لحظة والتانية هتستسلم للموت و قلبها هيقف ووقتها صدقني مهما بكيت مش هترجعها ومهما عملت مش هتقدر تمحي ذنبها اللي هيطارد ضميرك طول العمر. فكر ياصاحبي بس ياريت تفكر بسرعة لان الوقت أكيد مش في صالحك.
قالت نبيلة بهلع: يعني ايه الكلام اللي بتقوله ده يادكتور؟
زي ماقلتلك ياست نبيلة حالة هند بتدهور ولو ملقيناش متبرع في أسرع وقت فأنا آسف مضطر أقولك انها مهددة بالموت في اي لحظة.
شهقت صفية وهي تضع يدها على فمها تكتم صرخة ملتاعة بينما رددت نبيلة بانهيار: ياحبيبتي يابنتي. ياحبيبتي يابنتي.
المتبرع موجود يادكتور، أنا مستعد أعمل الفحوصات علطول.
استداروا يطالعون المتحدث ليظهر الأمل بعيون صفية وتغرق الدموع عينا نبيلة وهي تطالع ابن أختها الذي وقف بهدوء يصحبه شابا في مثل سنه او أكبر قليلا وسيما بدوره قمحي البشرة أسود العينين تظهر الطيبة على ملامحه، بينما قال الطبيب بحيرة: حضرتك مين؟
قالت نبيلة بفخر: ده يبقى خالد. أخو هند الكبير يادكتور.
WOW 🥺